السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

{ أحل لكم ليلة الصيام } أي : الليلة التي تصبحون منها صائمين { الرفث إلى نسائكم } الرفث : كناية عن الجماع ؛ لأنه لا يكاد يخلو عن رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ الوطء والجماع ، فإنه يجب أن يكنى عنه بلازم من لوازمه كالرفث وعُدّي بإلى لتَضَمُّنه معنى الإفضاء ، وكني عن الجماع هنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله : { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } ( النساء ، 21 ) استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة ، ولذلك سماه فيما يأتي خيانة قال : ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنّ الله تعالى حيّ كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول ، فالرفث إنما عني به الجماع ، وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء ، قال أهل التفسير : كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حلّ له الطعام والشراب والنساء إلى أوان العشاء الآخرة ، أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة القابلة ، ثم إنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة ، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسوّلت لي نفسي ، فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( ما كنت جديراً بذلك يا عمر ) فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه هذه الآية ، وفي تجويز المباشرة في جميع الليل دليل على جواز تأخير الغسل إلى الفجر وصحة صوم الصبح جنباً .

{ هن لباس } أي : سكن { لكم وأنتم لباس } أي : سكن { لهنّ } كما قال تعالى : { وجعل منها زوجها ليسكن إليها } ( الأعراف ، 189 ) وكما قيل : لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وقيل : سمي كل واحد من الزوجين لباساً ؛ لتجرّدهما عند النوم وتعانقهما واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد من الزوجين لصاحبه كالثوب الذي يلبسه . قال الجعدي :

إذا ما الضجيع ثنى عطفها *** تثنت فكانت عليه لباسا

والضجيع : المضاجع ، وما زائدة ، وثنى عطفها : أمال شقها ، وتثنت مالت ، والشاهد في قوله : فكانت عليه لباساً وقيل : إنّ كلاً منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور ، كما جاء في الخبر : ( من تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه ) .

{ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } أي : تظلمونها بتعريضها للعقاب ، وتنقيص حظها من الثواب بالمجامعة بعد العشاء كما وقع ذلك لعمر وغيره ، وقال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله هذه الآية .

{ فتاب عليكم } أي : قبل توبتكم { وعفا عنكم } أي : محا ذنوبكم ، ولم يمل أحد ألف عفا لأنه واوي { فالآن } أي إذا نسخ عنكم التحريم { باشروهن } أي : جامعوهنّ حلالاً ، وسمى المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهما بصاحبه { وابتغوا } أي : واطلبوا { ما كتب الله لكم } أي : ما قسم لكم ، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي : لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل ، أو قصد العفة ، وقال مجاهد : ابتغوا الولد فإن لم تلد هذه فهذه ، وقال مقاتل : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع . في اللوح المحفوظ ، وقيل : وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم وقيل : هو نهي عن العزل لأنه في الحرائر .

فقوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } أي : الصادق ، نزل في رجل من الأنصار ، قال عكرمة : اسمه أبو قيس ، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر ، فقال لامرأته : قدّمي الطعام وأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً ، سخناً فأخذت تعمل له في شيء وكان في ابتداء الإسلام من صلى العشاء أو نام قبلها حرم عليه الطعام والشراب ، فلما فرغت من طعامه إذ هو قد نام وكان قد أعيا وكلّ ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله ، وأبى أن يأكل ، فأصبح صائماً مجهوداً فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه ، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال : ( يا أبا قيس ما لك أمسيت طليحاً ، فذكر له حاله فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ) .

وقد شبّه سبحانه وتعالى أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق ، وما يمتدّ معه من غبش الليل بخيطين أبيض وأسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله : من الفجر عن بيان الخيط الأسود ؛ لدلالته عليه ويصح أن تكون من للتبعيض ، فإنما يبدو بعض الفجر ، وعلى كل منهما فهي مع مدخولها في محل الحال ، والمعنى على التبعيض حال كون الخيط الأبيض بعضاً من الفجر وعلى البيان حال كونه هو الفجر .

فإن قيل : كيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان حتى قال : عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أقوم من الليل فلا يتبين لي الأسود من الأبيض ، فلما أصبحت غدوت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال : ( إن كان وسادك إذاً لعريضاً ) وروي : ( إنك لعريض القفا إنما ذاك بياض النهار من الليل ) أجيب : بأنه غفل عن البيان ولذلك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قفاه ؛ لأنه مما يستدل به على بلادة الرجل وقلة فطنته ، وقال سهل بن سعد الساعدي نزلت ولم ينزل من الفجر ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، فأنزل الله تعالى بعد ذلك من الفجر .

فإن قيل : كيف جاز فعل ذلك في رمضان مع تأخير البيان وهو يشبه العبث ، حيث لا يفهم منه المراد ؟ أجيب : بأنّ ذلك كان قبل دخول رمضان ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز ، واكتفى أوّلاً باشتهارهما في ذلك ، ثم صرح بالبيان لمَّا التبس على بعضهم . { ثم أتموا الصيام } من الفجر { إلى الليل } أي : إلى دخوله بغروب الشمس ، كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ) أي : دخل وقت إفطاره .

تنبيه : إنما قدّرت في الآية الكريمة من الفجر ليدل على عدم جواز النية في النهار في صوم رمضان كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ ولأنّ إلى يكون المغيا بها ينقضي شيئاً فشيئاً ، والإتمام فعل الجزء الأخير فقط ، وهو ينقضي كذلك ، وفي الآية دليل على نفي الوصال ؛ لأنه تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشيء منتهاه ، وما بعدها يخالف ما قبلها . { ولا تباشروهنّ } أي : نساءكم { وأنتم عاكفون } أي : مقيمون { في المساجد } بنية الاعتكاف ، والمراد بالمباشرة الوطء ، والآية نزلت في نفر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، كانوا يعتكفون في المسجد ، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ، ثم اغتسل ثم يرجع إلى المسجد ، فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم ، وفيه دليل على أنّ الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد ، وأن يكون في المسجد لا في غيره ؛ إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطاً في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها ، وإن كان خارج المسجد ويمنع غيره أيضاً منها فيها ، فتعين كونها شرطاً لصحة الاعتكاف ، وأنّ الوطء محرّم في الاعتكاف ويفسده ؛ لأنّ النهي في العادات يوجب الفساد ، أما ما دون الجماع من المباشرات فإن كان بشهوة فحرام ، ولا يبطل اعتكافه إن لم ينزل ، فإن أنزل وكان بلا حائل فكالجماع وإلا فلا ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إليّ رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ) { تلك } الأحكام المذكورة وهي قوله تعالى : { الآن باشروهنّ } إلى قوله تعالى { في المساجد } { حدود الله } حدها لعذابه ليقفوا عندها { فلا تقربوها } نهى تعالى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل ؛ لئلا يداني الباطل فضلاً أن يتخطى عنه ، وهذا أبلغ من قوله تعالى في آية أخرى { فلا تعتدوها } ( البقرة ، 229 ) ، لكن في ذلك مأمورات وهي لا ينهى عن قربانها ، فالمراد منها أضدادها بناء على أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أو مستلزم له ؛ ليصح النهي عن قربانها ، ويجوز أن يراد بحدود الله محارمه ونواهيه . وعلى هذا فالنهي عن القربان ظاهر كما قال عليه الصلاة والسلام : ( إنّ لكل ملك حمى ، وإن حمى الله في أرضه محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) رواه الشيخان { كذلك } أي : كما بيّن لكم ما ذكر { يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } أي : لكي يتقوا مخالفة الأوامر والنواهي فينجوا من العذاب .