قوله تعالى :{ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً } قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى والمشركون . فأما اليهود فقالوا : عزير ابن الله ، ويد الله مغلولة ، وقالوا : إن الله فقير ، وأما النصارى فقالوا : المسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وأما المشركون فقالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله سبحانه وتعالى : شتمني عبدي ، يقول : اتخذ الله ولداً ، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد " . وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " . وقيل : معنى يؤذون الله يلحدون في أسمائه وصفاته . وقال عكرمة : هم أصحاب التصاوير .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن العلاء ، أنبأنا ابن فضيل ، عن عمارة ، عن أبي زرعة ، سمع أبا هريرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب بخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة " . وقال بعضهم : يؤذون الله أي : يؤذون أولياء الله ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } أي : أهل القرية . وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب " وقال : " من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة " . ومعنى الأذى : هو مخالفة أمر الله تعالى : وارتكاب معاصيه ، ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم ، والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد ، وإيذاء الرسول ، قال ابن عباس : هو أنه شج في وجهه وكسرت رباعيته . وقيل : شاعر ، ساحر ، معلم ، مجنون .
لما أرشد الله المؤمنين إلى تناهي مراتب حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم وتكريمه وحذّرهم مما قد يخفى على بعضهم من خفيّ الأذى في جانبه بقوله : { إن ذلكم كان يؤذي النبي } [ الأحزاب : 53 ] وقوله : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب : 53 ] وعلمهم كيف يعاملونه معاملة التوقير والتكريم بقوله : { ولا مستأنسين لحديث } [ الأحزاب : 53 ] وقوله : { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً } [ الأحزاب : 53 ] وقوله : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [ الأحزاب : 56 ] الآية ، وعلم أنهم قد امتثلوا أو تعلموا أردف ذلك بوعيد قوم اتسموا بسمات المؤمنين وكان من دأبهم السعي فيما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام فأعلم الله المؤمنين بأن أولئك ملعونون في الدنيا والآخرة ليعلم المؤمنون أن أولئك ليسوا من الإِيمان في شيء وأنهم منافقون لأن مثل هذا الوعيد لا يعهد إلا للكافرين .
فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنه يخطر في نفوس كثير ممن يسمع الآيات السابقة أن يتساءلوا عن حال قوم قد علم منهم قلة التحرز من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بتوقيره .
وجيء باسم الموصول للدلالة على أنهم عرفوا بأن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم من أحوالهم المختصة بهم ، ولدلالة الصلة على أن أذى النبي صلى الله عليه وسلم هو علة لعنهم وعذابهم .
واللعن : الإِبعاد عن الرحمة وتحقير الملعون . فهم في الدنيا محقرون عند المسلمين ومحرومون من لطف الله وعنايته ، وهم في الآخرة محقرون بالإِهانة في الحشر وفي الدخول في النار .
والعذاب المهين : هو عذاب جهنم في الآخرة وهو مهين لأنه عذاب مشوب بتحقير وخزي .
والقرن بين أذى الله ورسوله للإِشارة إلى أن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم يُغضب الله تعالى فكأنه أذى لله .
وفعل { يؤذون } معدى إلى اسم الله على معنى المجاز المرسل في اجتلاب غضب الله وتعديته إلى الرسول حقيقة . فاستعمل { يؤذون } في معنييه المجازي والحقيقي .
ومعنى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من آذاني فقد آذى الله " وأذى الرسول عليه الصلاة والسلام يحصل بالإِنكار عليه فيما يفعله ، وبالكيد له ، وبأذى أهله مثل المتكلمين في الإِفك ، والطاعنين أعماله ، كالطعن في إمارة زيد وأسامة ، والطعن في أخذه صفية لنفسه . وعن ابن عباس « إنها نزلت في الذين طعنوا في اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حييّ لنفسه » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين يؤذون الله ورسوله} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم نزلت في اليهود من أهل المدينة، وكان أذاهم لله عز وجل أن زعموا أن لله ولدا، وأنهم يخلقون كما يخلق الله عز وجل يعني التماثيل والتصاوير، وأما أذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم زعموا أن محمدا ساحر مجنون شاعر كذاب.
{لعنهم الله في الدنيا والآخرة} يعني باللعنة في الدنيا العذاب والقتل والجلاء، وأما في الآخرة فإن الله يعذبهم بالنار، فذلك قوله عز وجل: {وأعد لهم عذابا مهينا} يعني عذاب الهوان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله تعالى ذكره:"إنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ" إنّ الذين يؤذون ربهم بمعصيتهم إياه، وركوبهم ما حرّم عليهم...
عن ابن عباس، في قوله: "إنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ وأعَدّ لَهُمْ عَذَابا مُهِينا "قال: نزلت في الذين طعنوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حييّ بن أخطب.
وقوله: "وَلَعَنَهُمُ اللّهُ في الدّنْيا والآخِرَةِ" يقول تعالى ذكره: أبعدهم الله من رحمته في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم في الآخرة عذابا يهينهم فيه بالخلود فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: نزلت الآية في اليهود حين قالوا: {يد الله مغلولة} [المائدة: 64]. و {إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] وفي النصارى حين قالوا: {المسيح ابن الله} [التوبة: 20] و {قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] وفي مشركي العرب حين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام آلهة ونحو ذلك. وفي أذاهم رسول الله حين شجوه، وكسروا رباعيته، وقالوا: إنه مجنون، وإنه ساحر وأمثال ذلك.
وقالوا: فأما تعذيبه إياهم في الدنيا، فقتلهم بالسيف؛ يعني مشركي العرب. وتعذيب أهل الكتاب بالجزية إلى يوم القيامة، وفي الآخرة النار.
يؤذون أولياء الله ورسوله؛ وذلك لأن الله لا يجوز أن يلحقه الأذى، فأطلق ذلك مجازاً؛ لأن المعنى مفهوم عند المخاطبين...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا قال: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] فكذلك مَنْ آذى رسولَه وأنبياءَه عليهم السلام والمؤمنين فقد آذاه، ومعناه تخصيص حالتهم وإثبات رتبتهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نهى سبحانه عن أذاه صلى الله عليه وسلم، وحض على إدخال السرور عليه، توعد على أذاه، فقال على طريق الاستئناف أو التعليل، إشارة إلى أن التهاون بشيء من الصلاة و السلام من الأذى، وأكد ذلك إظهاراً لأنه مما يحق له أن يؤكد، وأن يكون لكل من يتكلم به غاية الرغبة في تقريره: {إن الذين يؤذون} أي يفعلون فعل المؤذي بارتكاب ما يدل على التهاون من كل ما يخالف {الله} أي الذي لا أعظم منه ولا نعمة عندهم إلا من فضله، {ورسوله} أي الذي استحق عليهم بما يخبرهم به عن الله مما ينقذهم به من شقاوة الدارين ويوجب لهم سعادتهما ما لا يقدرون على القيام بشكره، بأي أذى كان حتى في التقصير بالصلاة عليه باللسان، {لعنهم} أي أبعدهم وطردهم وأبغضهم، {الله} أي الذي لا عظيم غيره {في الدنيا} بالحمل على ما يوجب السخط {والآخرة} بإدخال دار الإهانة.
ولما كان الحامل على الأذى الاستهانة قال: {وأعد لهم عذاباً مهيناً}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فأذية الرسول، ليست كأذية غيره، لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يؤمن العبد باللّه، حتى يؤمن برسوله صلى اللّه عليه وسلم. وله من التعظيم، الذي هو من لوازم الإيمان، ما يقتضي ذلك، أن لا يكون مثل غيره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل هذا التمجيد الإلهي يبدو إيذاء الناس للنبي [صلى الله عليه وسلم] بشعا شنيعا ملعونا قبيحا: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذابا مهينا).. ويزيده بشاعة وشناعة أنه إيذاء لله من عبيده ومخاليقه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واللعن: الإِبعاد عن الرحمة وتحقير الملعون، فهم في الدنيا محقرون عند المسلمين ومحرومون من لطف الله وعنايته...
وفعل {يؤذون} معدى إلى اسم الله على معنى المجاز المرسل في اجتلاب غضب الله وتعديته إلى الرسول حقيقة. فاستعمل {يؤذون} في معنييه المجازي والحقيقي.