قوله تعالى : { قل جاء الحق } يعني : القرآن والإسلام ، { وما يبدئ الباطل وما يعيد } أي : ذهب الباطل وزهق فلم يبق منه بقية يبدئ شيئاً أو يعيد ، كما قال تعالى : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه } وقال قتادة : الباطل هو إبليس ، أي : ما يخلق أحدا ابتداء ولا يبعثه ، وهو قول مقاتل والكلبي ، وقيل : الباطل : الأصنام .
أعيد فعل { قل } للاهتمام بالمقول كما تقدم آنفاً .
وجملة { قل جاء الحق } تأكيد لجملة { قل إن ربي يقذف بالحق } [ سبأ : 48 ] فإن الحق قد جاء بنزول القرآن ودعوة الإِسلام . وعُطف { وما يبدىء الباطل وما يعيد } على { جاء الحق } لأنه إذا جاء الحق انقشع الباطل من الموضع الذي حلّ فيه الحق .
و { يبدىء } مضارع أبدأَ بهمزة في أوله وهمزة في آخره والهمزة التي في أوله للزيادة مثل همزة : أجاء ، وأسرى . وإسناد الإِبداء والإِعادة إلى الباطل مجاز عقلي أو استعارة .
ومعنى { ما يبدىء الباطل وما يعيد } الكناية عن اضمحلاله وزواله وهو ما عبر عنه بالزهوق في قوله تعالى : { إن الباطل كان زهوقاً } في سورة الإِسراء ( 81 ) . وذلك أن الموجود الذي تكون له آثارٌ إمّا أن تكون آثاره مستأنفة أو معادة فإذا لم يكن له إِبداء ولا إعادة فهو معدوم وأصله مأخوذ من تصرف الحي فيكون ما يبدىء وما يعيد } كناية عن الهلاك كما قال عَبيد بن الأبرص :
أفقر من أهله عَبيد *** فاليوم لا يُبدي ولا يعيد ( يعني نفسه ) .
ويقولون أيضاً : فلان ما يبدىء وما يعيد ، أي ما يتكلم ببادئة ولا عائدة ، أي لا يرتجل كلاماً ولا يجيب عن كلام غيره . وأكثر ما يستعمل فعل ( أبدأ ) المهموز أوله مع فعل ( أعاد ) مزدوجين في إثبات أو نفي ، وقد تقدم قوله تعالى : { أولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده } في سورة العنكبوت ( 19 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل جاء الحق} الإسلام {وما يبدئ الباطل وما يعيد}: ما يبدئ الشيطان الخلق فيخلقهم، وما يعيد خلقهم في الآخرة، فيبعثهم بعد الموت، والله جل وعز يفعل ذلك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قُلْ جاءَ الحَقّ" يقول: قل لهم يا محمد: جاء القرآن ووحي الله.
"وَما يُبْدِئ الباطِلُ" يقول: وما ينشئ الباطل خلقا، والباطل هو فيما فسّره أهل التأويل: إبليس. "وَما يُعِيدُ" يقول: ولا يعيده حيا بعد فنائه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد. الثالث: الجهاد بالسيف، قاله ابن مسعود.
{وَمَا يُبْدِيءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} فيه ثلاثة أوجه:... الثالث: أنه دين الشرك، قاله ابن بحر.
وفي إبداء الباطل وإعادته ثلاثة أوجه:
الثالث: لا يثبت إذا بدا، ولا يعود إذا زال، قاله ابن بحر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الباطلُ على مَمَرِّ الأيام لا يزيد إلا زهوقاً، والحقُّ على مَمَرِّ الأيام لا يزداد إلا قوةً وظهوراً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والحيّ إمّا أن يبدئ فعلاً أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فجعلوا قولهم: لا يبدئ ولا يعيد مثلاً في الهلاك. والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً، فجعل يطعنها بعود نبعة ويقول: {جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {جَاء الحق وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ}.
لما ذكر الله أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال، ذكر أن ذلك الحق قد جاء وفيه وجوه؛
الثاني: أنه بيان التوحيد والحشر وكل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، الثالث: المعجزات الدالة على نبوة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يكون المراد من {جاء الحق} ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر والباطل خلاف الحق، وقد بينا أن الحق هو الموجود.
ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لم يمكن انتفاؤه كالتوحيد والرسالة والحشر، كان حقا لا ينتفي، ولما كان ما يأتون به من الإشراك والتكذيب لا يمكن وجوده كان باطلا لا يثبت، وهذا المعنى يفهم من قوله: {وما يبدئ الباطل} أي الباطل لا يفيد شيئا في الأولى ولا في الآخرة فلا إمكان لوجوده أصلا، والحق المأتي به لا عدم له أصلا.
وقيل المراد لا يبدئ الشيطان ولا يعيد، وفيه معنى لطيف وهو أن قوله تعالى: {قل إن ربى يقذف بالحق} لما كان فيه معنى قوله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} كان يقع لمتوهم أن الباطل كان فورد عليه الحق فأبطله ودمغه، فقال ههنا ليس للباطل تحقق أولا وآخرا، وإنما المراد من قوله: {فيدمغه} أي فيظهر بطلانه الذي لم يزل كذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى في موضع آخر: {وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} يعني ليس أمرا متجددا زهوق الباطل، فقوله: {وما يبدئ الباطل} أي لا يثبت في الأول شيئا خلاف الحق {وما يعيد} أي لا يعيد في الآخرة شيئا خلاف الحق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل جاء الحق} أي الأمر الثابت الذي لا يقدر شيء أن يزيله؛ وأكد تكذيباً لهم في ظنهم أنهم يغلبون فقال: {وما} أي والحال أنه ما {يبدئ الباطل} أي الذي أنتم عليه وغيره في كل حال حصل فيه تفريعه على مر الأيام.
{وما يعيد} بل هو كالجماد لا حركة به أصلاً، لأنه مهما نطق به صاحبه في أمره بعد هذا البيان افتضح، فإن لم ترجعوا عنه طوعاً رجعتم وأنتم صغرة كرهاً، والحاصل أن هذا كناية عن هلاكه بما يهز النفس ويرفض الفكر بتمثيله بمن انقطعت حركته، وذهبت قوته لا يرجى بوجه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويتلوه الإيقاع الرابع في مثل عنفه وسرعته: قل: جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد.. جاء هذا الحق في صورة من صوره في الرسالة وفي قرآنها وفي منهجها المستقيم.
قل: جاء الحق، أعلن هذا الإعلان وقرر هذا الحدث واصدع بهذا النبأ.
جاء الحق،جاء بقوته، جاء بدفعته، جاء باستعلائه وسيطرته.
(وما يبدئ الباطل وما يعيد).. فقد انتهى أمره. وما عادت له حياة، وما عاد له مجال، وقد تقرر مصيره وعرف أنه إلى زوال.
إنه الإيقاع المزلزل، الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال، وإنه لكذلك، فمنذ جاء القرآن، استقر منهج الحق واتضح، ولم يعد الباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم، ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق. إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق. غلبة الناس لا المبادئ. وهذه موقوتة ثم تزول. أما الحق فواضح بين صريح...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لا جرم إذ انتهى الاستدلال والمجادلة أن يُنتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم.
وأعيد فعل {قل} للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفاً.
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإِشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبه ويؤيده. فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعمّ الناس كلهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوِّي لأن تقوِّي الجملة حصل بحرف التأكيد. وهذا الاختصاص باعتبار ما في {يقذف بالحق} من معنى: الناصر لي دونَكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم.
والقذف: إلقاء شيء من اليد، وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة، شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه. والمعنى: أن ربي يقذفكم بالحق.
أو هو إشارة إلى قوله: {بل نقذف بالحق على الباطل} [الأنبياء: 18] وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين.
وتخصيص وصف {علام الغيوب} من بين الأوصاف الإِلهية للإِشارة إلى أنه عالم بالنوايا، وأن القائِل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترئ على الله بادعائه باطلاً أنه أرسله إليكم، فالإِعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدتِه وهو العِلم بالحكم الخبري.
ويجوز أن يكون معنى: {يقذف بالحق} يرسل الوحي، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} [غافر: 15] ويكون قوله {علام الغيوب} إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون: لولا أنزلت علينا الملائكة دون محمد.
{قُلْ جَآءَ الْحَقُّ..} يعني: قذفه بالفعل في صورة القرآن الذي نزل على محمد الذي اختاره الله للرسالة ولحمل منهجه إلى خَلْقه لينظم به حركة حياتهم، وإذا كان الحق الواضح الثابت قد جاء وظهر، والذي قذفه علام الغيوب، فما موقف الباطل المقابل له؟ لا بُدَّ أنه يتراجع، ولا يستطيع الصمود أمام قوة الحق.
{وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} فلا يبدىء في الأولى، ولا يعيد في الأخرى، يعنى: كما نقول: لا في العير ولا في النفير... هذا إذا كان للباطل وجود أو ثبات، إنما الباطل ما هو إلا خيال بعيد في أذهان أصحابه لا وجودَ له.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مع أنّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مصاديق «الحقّ» و «الباطل» في هذه الآية في حدود معيّنة، لكن الواضح أنّ مفهوم الاثنين واسع وشامل جدّاً؛ القرآن، الوحي الإلهي، تعليمات الإسلام، جميعها مصاديق لمفهوم «الحقّ». والشرك والكفر، والضلال، والظلم والذنوب، ووساوس الشيطان، والبدع الطاغوتية كلّها تندرج تحت معنى «الباطل».
سؤال: يثار هنا سؤال وهو أنّ الآية أعلاه تقول: إنّه بظهور الحقّ، يمحق الباطل، ويفقد كلّ خلاّقيته، والحال أنّنا نرى أنّ الباطل له جولات وصيت إلى الآن، ويسيطر على مناطق كثيرة؟ وللإجابة على هذا السؤال، يجب الالتفات إلى ما يلي: أوّلا: إنّه بظهور الحقّ وإشراقه. فإنّ الباطل والذي هو الشرك والنفاق والكفر وكلّ ما ينبع عنها يفقد بريقه، وإذا استمرّ وجوده فبالقوّة والظلم والضغط، وإلاّ فإنّ النقاب قد اُزيل عن وجهه، وظهرت صورته القبيحة لمن يطلب الحقّ، وهذا هو المقصود من مجيء الحقّ ومحو الباطل.
ثانياً: إنّ انتصار الحقّ على الباطل ليس فقط في المناحي العقائدية والمنطقية وفي الأهداف، بل في المناحي الإجرائية على أساسين، «فاعلية الفاعل»و «قابلية القابل» وإذا لم يصل الحقّ إلى النصر على الباطل في المرحلة العملية، نتيجة عدم تحقّق (القابلية)، فليس ذلك دليلا على عدم انتصاره.