معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (53)

قوله تعالى :{ وما أبرئ نفسي } من الخطأ والزلل فأزكيها ، { إن النفس لأمارة بالسوء } ، بالمعصية { إلا ما رحم ربي } ، أي : إلا من رحم ربي فعصمه ، " ما " بمعنى " من " كقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم } [ النساء-3 ] أي : من طاب لكم ، وهم الملائكة ، عصمهم الله عز وجل فلم يركب فيهم الشهوة . وقيل : إلا من رحم ربي إشارة إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان . { إن ربي غفور رحيم } ، فلما تبين للملك عذر يوسف عليه السلام وعرف أمانته وعلمه ، اشتاق لرؤيته وكلامه ، وذلك معنى قوله تعالى إخبارا عنه : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (53)

ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز ، مضت في بقية إقرارها فقالت : { وما أبرىء نفسي } . وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها : { ذلك لِيَعْلَم أني لم أخنْه بالغيب } [ سورة يوسف : 52 ] من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاءٌ بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت : { وما أبرىء نفسي } ، أي ما أبرىء نفسي من محاولة هذا الإثم لأن النفس أمّارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ولكنه لم يقع .

فالواو التي في الجملة استئنافية ، والجملة ابتدائية .

وجلمة { إن النفس لأمارة بالسوء } تعليل لجملة { وما أبرىء نفسي } ، أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب ، لأن النفوس كثيرة الأمر بالسوء .

والاستثناء في { إلا ما رحم ربي } استثناء من عموم الأزمان ، أي أزمان وقوع السوء ، بناءً على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كلّ الأوقات إلاّ وقت رحمة الله عبده ، أي رحمته بأن يقيّض له ما يصرفه عن فعل السوء ، أو يقيض حائلاً بينه وبين فعل السوء ، كما جعل إباية يوسف عليه السلام من إجابتها إلى ما دعتْه إليه حائلاً بينها وبين التورط في هذا الإثم ، وذلك لطف من الله بهما .

ولذلك ذيلته بجملة { إن ربي غفور رحيم } ثناءً على الله بأنه شديد المغفرة لمن أذنب ، وشديد الرحمة لعبده إذا أراد صرفه عن الذنب .

وهذا يقتضي أن قومها يؤمنون بالله ويحرمون الحرام ، وذلك لا ينافي أنهم كانوا مشركين فإن المشركين من العرب كانوا يؤمنون بالله أيضاً ، قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولُن الله } [ سورة العنكبوت : 61 ] وكانوا يعرفون البر والذنب .

وفي اعتراف امرأة العزيز بحضرة الملك عبرة بفضيلة الاعتراف بالحق ، وتبرئة البريء مما ألصق به ، ومن خشية عقاب الله الخائنين .

وقيل : هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام متصل بقوله : { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } الآية [ سورة يوسف : 50 ] .

وقوله : { قال ما خَطْبُكُنّ إذ رَاوَدْتُنّ يوسف } إلى قوله { وأن الله لا يهدي كَيْد الخائنين } [ سورة يوسف : 51 52 ] اعتراض في خلال كلام يوسف عليه السلام . وبذلك فسّرها مجاهد وقتادة وأبو صالح وابن جريج والحسن والضحّاك والسدّي وابن جبير ، واقتصر عليه الطبري . قال في الكشاف } : ( وكفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلام يوسف عليه السلام ، ونحوُه قوله : { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم ثم قال فماذا تأمرون } [ سورة الأعراف : 109 110 ] وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم ) ا هـ . يريد أن معنى هذه الجملة أليق بأن يكون من كلام يوسف عليه السلام لأن من شأنه أن يصدر عن قلب مليء بالمعرفة .

وعلى هذا الوجه يكون ضمير الغيبة في قوله : { لم أخنه } [ سورة يوسف : 52 ] عائداً إلى معلوم من مقام القضية وهو العزيز ، أي لم أخن سيدي في حرمته حال مغيبه .

ويكون معنى وما أبرىء نفسي } الخ . . مثل ما تقدم قصد به التواضع ، أي لست أقول هذا ادعاء بأن نفسي بريئة من ارتكاب الذنوب إلا مدة رحمة الله النفس بتوفيقها لأكف عن السوء ، أي أني لم أفعل ما اتهمت به وأنا لست بمعصوم .