اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (53)

قوله تعالى : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } الآية اعلمْ أنَّ تفسير هذه الآية يختلف باختلاف ما قبلها ؛ لأنَّه إن قلنا قوله { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، كلام يوسف ، كان هذا أيضاً كلام يوسف ، وإن قلنا : : إنه من تمام كلام المرأة ، كان هذا أيضاً كذلك .

وإذا قلنا : إنه من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام ، فقالوا : إنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، قال جبريلُ عليه السلامُ ولا حين هَمَمْتَ ، فعند هذا ، قال يوسف عليه الصلاة والسلام : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } ، أي : بالزِّنا ، { إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } أي عصم ، { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لِلْهمِّ الذي همَّ به ، " رَحِيمٌ " ، أي لو فعلته ، لتابَ عليَّ .

قال ابنُ الخطيب رحمه الله : " هذا ضعيفٌ ؛ فإنَّا بينا في الآية الأولى برهاناً قاطعاً على براءته من الذنب " .

فإن قيل : ما جوابكم عن هذه الآية ؟ .

فنقول : فيه وجهان :

الأول : أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، كان ذلك جارياً مجرى المدحِ لنفسه ، وتزيكتها ؛ وقال سبحانه { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] فاستدركه على نفسه بقوله : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } ، والمعنى : فلا أزكِّى نفسي { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } ، ميَّالةٌ إلى القبائحِ ، راغبةٌ في المعصيةِ .

الثاني : أنَّ الآية لا تدلُّ البتة على شيءٍ مما ذكروه ؛ لأنَّ يوسف صوات الله وسلامه عليه لما قال : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، بيَّن أنَّ ترك الخيانة ما كان لعدمِ الرغبة ، ولعدم ميل النفس ، والطبيعةِ ؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوءِ ، توَّاقةٌ إلى اللذات ، فبيَّن بهذا الكلام أن ترك الخيانة ، ما كان لعدم الرغبةِ ، بل لقيام الخوف من الله تعالى .

وإذا قلنا : إنَّ هذا الكلام من بقية كلامِ المرأةِ ، ففيه وجهان :

الأول : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } ، عن مراودته ، ومرادها تصديقُ يوسف في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] .

والثاني : أنها لما قالت : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } ، قالت : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } ، من الخيانة مطلقاً ؛ فإنٍّي قد خنته حين أحلت الذنب عليه ، وقلت : { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ يوسف : 25 ] ؛ وأودعته في السِّجن ، كأنَّها أرادت الاعتذارَ مما كان .

فإن قيل : أيُّهما أولى ، جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف ، أم جعله كلاماً للمرأة .

قلنا : جعله كلاماً ليوسف مشكل ؛ لأنَّ قوله : { قالت امرأة العَزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقٌّ } كلامٌ موصولٌ بعضه ببعضٍ إلى آخره ، فالقول بأنَّ بعضه كلام المرأةِ ، والبعض كلام يوسف ، تخلّل الفواصل الكثيرة بين القولين ، وبين المجلسين بعيد .

فإن قيل : جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً ؛ لأن قوله { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } كلامٌ لا يحسنُ صدوره إلاَّ ممَّن احترز عن المعاصِي ، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل النَّفس ، ولا يليق ذلك بالمرأةِ التي استفرغت جهدها في المعصية .

قوله : { إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } فيه أوجهٌ :

أحدها : أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في " أمَّارةٌ " كأنه قيل : إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلاَّ نفساً رحمها ربِّي ، فيكون أراد بالنفس الجنس ؛ فلذلك ساغ الاستثناء منها ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ العصر : 2 ، 3 ] وإلى هذا نحا الزمخشريُّ رحمه الله فإنه قال : " إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة ؛ كالملائكة " .

وفيه نظرٌ ؛ من حيث إيقاع " ما " على من يعقل ، والمشهور خلافه .

قال ابن الخطيب : " ما " بمعنى " مَنْ " أي : إ لا من رحم ربي ، و " مَا " و " مَنْ " كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر ؛ قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، وقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] .

والثاني : أنَّ " مَا " في معنى الزمان ؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِ المقدر ، والمعنى : إنَّ النَّفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ ، إلاَّ وقت رحمة ربِّي إيَّاها بالعصمةِ . ونظره أبو البقاءِ بقوله : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } [ النساء : 92 ] ، وقد تقدَّم [ النساء : 92 ] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون " أنْ " واقعة موقع ظرف الزمان .

والثالث : أنه مستثنى من معفولِ " أمَّارةٌ " ، أي : لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذي رحمه الله ، وفيه إيقاع " مَا " على العاقل .

والرابع : أنه استثناء منقطع ، قال ابن عطيَّة : وهو قول الجمهور . وقال الزمخشريُّ : ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً ، أيك ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة ؛ كقوله : { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا } [ يس : 43 ، 44 ] .

فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له

هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى ؛ لقوله تعالى : { إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } فدلَّ ذلك على إنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله ، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الحرمةُ له ، حصل ذلك الانصرافُ ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل ، والقدرةِ ، والألطافِ ، كما قاله القاضي رحمه الله ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن ، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر ، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ .