{ إنا بلوناهم } يعني اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع ، { كما بلونا } ابتلينا ، { أصحاب الجنة } روى محمد بن مروان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : في قوله عز وجل : { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة } قال : كان بستان باليمن يقال له الضروان ، دون صنعاء بفرسخين ، يطؤه أهل الطريق ، كان غرسه قوم من أهل الصلاة ، وكان لرجل فمات فورثه ثلاثة بنين له ، وكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل ، إذا طرح من فوق النخل إلى البساط فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضاً للمساكين ، وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوا كان لهم كل شيء ينتثر أيضاً ، فلما مات الأب وورثه هؤلاء الإخوة عن أبيهم ، فقالوا : والله إن المال لقليل ، وإن العيال لكثير ، وإنما كان هذا الأمر يفعل إذ كان المال كثيراً والعيال قليلاً ، فأما إذا قل المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل هذا ، فتحالفوا بينهم يوماً ليغدون غدوة قبل خروج الناس فليصرمن نخلهم ولم يستثنوا ، يعني : لم يقولوا إن شاء الله ، فغدا القوم بسدفة من الليل إلى جنتهم ليصرموها قبل أن يخرج المساكين ، فرأوها مسودة ، وقد طاف عليها من الليل طائف من العذاب فأحرقها ، فأصبحت كالصريم ، فذلك قوله عز وجل : { إذ أقسموا } حلفوا ، { ليصرمنها مصبحين } وليقطعن ثمرها إذا أصبحوا قبل أن يعلم المساكين .
ضمير الغائيبن في قوله : { بلوناهم } يعود إلى المكذبين في قوله : { فلا تطع المكذبين } [ القلم : 8 ] . والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً دَعت إليه مناسبة قوله : { أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه ءاياتُنا قال أساطير الأولين } [ القلم : 1415 ] فإن الازدهاء والغرور بسعة الرزق المفضيين إلى الاستخفاف بدعوة الحق وإهمال النظر في كنهها ودلائلها قد أوقعا من قديم الزمان أصحابهما في بَطَر النعمة وإهمال الشكر فجَرَّ ذلك عليهم شر العواقب ، فضرب الله للمشركين مثلاً بحال أصحاب هذه الجَنة لعلهم يستفيقون من غفلتهم وغرورهم . كما ضرب المثل بقريب منه في سورة الكهف ، وضرب مثلاً بقارون في سورة القصص .
والبلْوى حقيقتها : الاختبار وهي هنا تمثيل بحال المبتلَى في إرخاء الحبل له بالنعمة ليشكر أو يكفر ، فالبلوى المذكورة هنا بلوى بالخير فإن الله أمدّ أهل مكة بنعمة الأمن ، ونعمة الرزق ، وجعل الرزق يأتيهم من كل جهة ، ويسر لهم سبل التجارة في الآفاق بنعمة الإِيلاف برحلة الشتاء ورحلة الصيف ، فلما أكمل لهم النعمة بإرسال رسول منهم ليكمل لهم صلاح أحوالهم ويهديهم إلى ما فيه النعيم الدائم فدعاهم وذكرهم بنعم الله أعرضوا وطَغوا ولم يتوجهوا إلى النظر في النعم السالفة ولا في النعمة الكاملة التي أكمَلَتْ لهم النعم .
ووجه المشابهة بين حالهم وحال أصحاب الجنّة المذكورة هنا هو الإِعراض عن طلب مرضاة الله وعن شكر نعمته .
وهذا التمثيل تعريض بالتهديد بأن يلحقهم ما لحق أصحاب الجنة من البؤس بعد النعيم والقحط بعد الخصب ، وإن اختلف السبب في نوعه فقد اتحد جنسه . وقد حصل ذلك بعد سنين إذْ أخذهم الله بسبع سنين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
وهذه القصة المضروب بها المثل قصة معروفة بينهم وهي أنه كانت ببلد يقال له : ضَرَوان ( بضاد معجمة وراء وواو مفتوحات وألف ونون ) من بلاد اليمن بقرب صنعاء . وقيل : ضروان اسم هذه الجنة ، وكانت جنّة عظيمة غرسها رجل من أهل الصلاح والإيمان من أهل الكتاب قاله ابن عباس . ولم يبين من أي أهل الكتاب هو : أمِن اليهود أم من النصارى ؟ فقيل : كان يهودياً ، أي لأن أهل اليمن كانوا تديّنوا باليهودية من عهد بلقيس كما قيل أو بعدها بِهجرة بعض جنود سليمان ، وكانت زكاة الثمار من شريعة التوراة كما في الإِصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين .
وقال بعض المفسرين : كان أصحابُ هذه الجنة بعد عيسى بقليل ، أي قبل انتشار النصرانية في اليمن لأنها ما دخلت اليمن إلاّ بعد دخول الأحباش إلى اليمن في قصة القَليس وكان ذلك زمان عام الفيل . وعن عكرمة : كانوا من الحبشة كانت لأبيهم جنة وجعل في ثمرها حقاً للمساكين وكان يدخل معه المساكين ليأخذوا من ثمارها فكان يعيش منها اليتامى والأَرامل والمساكين وكان له ثلاثة بنين ، فلما توفي صاحب الجنة وصارت لأولاده أصبحوا ذوي ثروة وكانوا أشحة أو كان بعضهم شحيحاً وبعضهم دونه فتمالؤوا على حرمان اليتامى والمساكين والأَرامل وقالوا : لنغدون إلى الجنة في سدفة من الليل قبل انبلاج الصباح مثل وقت خروج الناس إلى جناتهم للجذاذ فلنجذنها قبل أن يأتي المساكين .
فبيتوا ذلك وأقسموا أيماناً على ذلك ، ولعلهم أقسموا ليُلزموا أنفسهم بتنفيذ ما تداعَوا إليه . وهذا يقتضي أن بعضهم كان متردداً في موافقتهم على ما عَزموا عليه وأنهم ألجموه بالقسم وهذا الذي يلتئم مع قوله تعالى : { قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون } [ القلم : 28 ] ، قيل كان يقول لهم : اتقوا الله واعدلوا عن خبث نيتكم من منع المساكين ، وذكرهم انتقام الله من المجرمين ، أي فغلبوه ومضَوا لما عزموا عليه ، ولعلهم أقسموا على أن يفعلوا وأقسموا عليه أن يفعل معهم ذلك فأقسم معهم أو وافقهم على ما أقسموا عليه ، ولهذا الاعتبار أسند القسم إلى جميع أصحاب الجنة .
فلما جاءوا جنتهم وجدوها مسودّة قد أصَابها ما يشبه الاحتراق فلما رأوها بتلك الحالة علموا أن ذلك أصابهم دون غيرهم لعزمهم على قطع ما كان ينتفع به الضعفاء من قومهم وأنابوا إلى الله رجاء أن يعطيهم خيراً منها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.