السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّا بَلَوۡنَٰهُمۡ كَمَا بَلَوۡنَآ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ إِذۡ أَقۡسَمُواْ لَيَصۡرِمُنَّهَا مُصۡبِحِينَ} (17)

ولما ذكر تعالى في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال ، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين ، وهو يعلم أن الموت وراءه ، أعاد ذكر الابتلاء وأكده بقوله تعالى : { إنا } أي : بما لنا من القهر والعظمة { بلوناهم } أي : عاملنا أهل مكة بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن ، فغرّهم ذلك وظنوا أنهم أحباب ، ومن قترنا عليهم من أوليائنا أعداء ، واستهانوا بهم ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفة والجنون ، وكان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف ، { كما بلونا } أي : اختبرنا { أصحاب الجنة } بأن عاملناهم معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر .

وحاصله : أنه استخراج ما في البواطن ليعلمه العباد في عالم الشهادة ، كما يعلم الخالق في عالم الغيب ، أو أنه كناية عن الجزاء ، وعرف الجنة لأنها كانت شهيرة عندهم ، وهي بستان عظيم كان دون صنعاء بفرسخين يقال له : الضروان ، يطؤه أهل الطريق ، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام ، ويترك لهم ما أخطأ المنجل ، أو ألقته الريح ، أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة ، وكان يجتمع لهم شيء كثير ، فلما مات شح بنوه بذلك وقالوا : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، ونحن ذوو عيال ، فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس ، حتى لا تأتي الفقراء إلا بعد فراغهم ، وذلك معنى قوله تعالى : { إذ } أي : حين { أقسموا } ودل على تأكيد القسم بالتأكيد فقال : { ليصرمنها } عبر به عن الجذاذ ، لدلالته على القطع البائن المستأصل المانع للفقراء ، من الصريم الذي يعرض على فم الجدي لئلا يرضع ، أو من الصرماء للمفازة التي لا ماء بها ، والناقة القليلة اللبن . { مصبحين } داخلين في أول وقت الصباح ، لئلا تشعر بهم المساكين فلا يعطوهم منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها .