قوله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا } ، في فنائها وزوالها ، { كماء أنزلناه من السماء فاختلط به } ، أي : بالمطر ، { نبات الأرض } ، قال ابن عباس : نبت بالماء من كل لون ، { مما يأكل الناس } ، من الحبوب والثمار ، { والأنعام } ، من الحشيش ، { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } ، حسنها وبهجتها وظهر الزهر أخضر وأحمر وأصفر وأبيض { وازينت } . أي : تزينت ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود : تزينت . { وظن أهلها أنهم قادرون عليها } ، على جذاذها وقطافها وحصادها ، رد الكناية إلى الأرض . والمراد : النبات إذ كان مفهوما ، وقيل : ردها إلى الغلة . وقيل : إلى الزينة . { أتاها أمرنا } ، قضاؤنا ، بإهلاكها ، { ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً } ، أي : محصودة مقطوعة ، { كأن لم تغن بالأمس } ، كأن لم تكن بالأمس ، وأصله من غني بالمكان إذا أقام به وقال قتادة : معناه إن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون . { كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } .
المعنى : { إنما مثل } تفاخر الحياة الدنيا وزينتها بالمال والبنين إذ يصير ذلك إلى الفناء كمطر نزل من السماء { فاختلط } ووقف هنا بعض القراء على معنى ، فاختلط الماء بالأرض ثم استأنف به { نبات الأرض } على الابتداء والخبر المقدم ، ويحتمل على هذا أن يعود الضمير في { به } على «الماء » أو على «الاختلاط » الذي يتضمنه القول{[6074]} . ووصلت فرقة فرفع «النباتُ » على ذلك بقوله { اختلط } أي اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء ، وقوله { مما يأكل الناس } ، يريد الزروع والأشجار ونحو ذلك ، وقوله { والأنعام } يريد سائر العشب المرعي ، و { أخذت الأرض } ، لفظة كثرت في مثل هذا كقوله { خذوا زينتكم }{[6075]} و «الزخرف » التزين بالألوان ، وقد يجيء الزخرف بمعنى الذهب إذ الذهب منه ، وقرأ مروان بن الحكم وأبو جعفر والسبعة وشيبة ومجاهد والجمهور : { وازينت } أصله : تزينت سكنت التاء لتدغم فاحتيج إلى ألف الوصل وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبيّ بن كعب «وتزينت » وهذه أصل قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن وأبو العالية والشعبي وقتادة ونصر بن عاصم وعيسى «وأزينت » على معنى حضرت زينتها كما تقول أحصد الزرع ، «وأزينت » على مثال أفعلت{[6076]} وقال عوف بن أبي جميلة : كان أشياخنا يقرؤونها «وازيانت » النون شديدة والألف ساكنة قبلها{[6077]} ، وهي قراءة أبي عثمان النهدي ، وقرأت فرقة «وأزيأنت » وهي لغة منها قول الشاعر [ ابن كثير ] : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا ما الهوادي بالغبيطِ احْمأرَّتِ{[6078]}
وقرأت فرقة «وازاينت » والمعنى في هذا كله ظهرت زينتها ، وقوله { وظن أهلها } على بابها{[6079]} . والضمير في { عليها } عائد على { الأرض } ، والمراد ما فيها من نعمة ونبات ، وهذا الكلام فيه تشبيه جملة أمر الحياة الدنيا بهذه الجملة الموصوفة أحوالها ، و { حتى } غاية وهي حرف ابتداء لدخولها على { إذا } ومعناها متصل إلى قوله { قادرون عليها } ، ومن بعد ذلك بدأ الجواب ، والأمر الآتي واحد الأمور كالريح والصر والسموم ونحو ذلك ، وتقسيمه { ليلاً أو نهاراً } تنبيه على الخوف وارتفاع الأمن في كل وقت ، و { حصيداً } : فعيل بمعنى مفعول وعبر ب «حصيد » عن التالف الهالك من النبات وإن لم يهلك بحصاد ، إذ الحكم فيهما وكأن الآفة حصدته قبل أوانه ، وقوله { كأن لم تغن } أي كأن لم تنعم ولم تنضر ولم تغر بغضارتها وقرأ قتادة « » يغن «بالياء من تحت يعني الحصيد وقرأ مروان » كأن لم تتغن «بتاءين مثل تتفعل{[6080]} والمغاني المنازل المعمورة ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
وقد نغنى بها ونرى عصوراً*** بها يقتدننا الخرد الخذالا{[6081]}
وفي مصحف أبي بن كعب «كأن لم تغن بالأمس وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها كذلك نفصل الآيات » ، رواها عنه ابن عباس ، وقيل : إن فيه «وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها »{[6082]} ، وقرأ أبو الدرداء «لقوم يتذكرون » ومعنى الآية التحذير من الاغترار بالدنيا ، إذ هي معرضة للتلف وأن يصيبها ما أصاب هذه الأرض المذكورة بموت أو غيره من رزايا الدنيا ، وخص «المتفكرين » بالذكر تشريفاً للمنزلة وليقع التسابق إلى هذه الرتبة .
هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة { متاع الحياة الدنيا } [ يونس : 23 ] المؤذنة بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة ، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال ، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد .
والمثَل : الحال الماثلة على هيئة خاصة ، كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة . عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة .
وصيغة القصر لتأكيد المقصُود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء . ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجىء . والمعنى : قصرُ حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف ، فالقصر قصر قلب ، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة .
شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاماً ومصيره حصيداً . ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزءٍ من الحاليْن المتشابهين ، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه .
فقوله : { كماء أنزلناه من السماء } شُبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته ، فذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه سبب ما يؤمَّل منه مِن زخرف الأرض ونضارتها .
وقوله : { فاختلط به نبات الأرض } شُبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة ، فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول ، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها . وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء ، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه .
وقوله : { مما يأكل الناس والأنعام } وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول ، وأصنافٌ تأكلها الأنعام من العشب والكلأ ، وذلك يشبَّه به ما ينعَم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان ، فإن له حظاً في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته .
ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والآكل صح أن تُشبه به رغَبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم ، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس ، وتشبيهَ سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام ، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام ، كقوله تعالى : { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام } [ محمد : 12 ] .
والقول في { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } كالقول في قوله : { حتى إذا كنتم في الفلك } [ يونس : 22 ] ، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء .
وأمر الله : تقديره وتكوينه . وإتيانه : إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء . وفي معنى الغاية المستفادِ من ( حتى ) ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطواراً كثيرة ، فذلك طوي في معنى ( حتى ) .
وقوله : { ليلاً أو نهاراً } ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت .
والزخرف : اسم الذهب . وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي .
وإطلاق أخذ الأرض زخرفها على حصول الزينة فيها استعارةٌ مكنية . شبهت الأرض بالمرأة حين تريد التزين فتُحضر فاخر ثيابها من حلي وألوان . والعرب يطلقون على ذلك التناول اسم الأخذ ، قال تعالى : { يا بني آدم خُذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] ، وقال بشار بن برد :
وخُذي ملابس زينة *** ومُصَبَّغات وهي أفخر
وذكر { ازينت } عقب { زخرفها } ترشيح للاستعارة ، لأن المرأة تأخذ زخرفها للتزين . و { ازّينت } أصله تزينت فقلبت التاء زَاياً ؛ لتدغم في الزاي فسكنت وأدغمت واجتلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن .
واعلم أن في قوله تعالى : { أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً } إشارة لإرادة الاستئصال فهو ينذر بالتهديد للكافرين ويجعل التمثيل أعلق بحياتهم ، كقوله تعالى : { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } [ الأنعام : 44 ] لا سيما وقد ضرب هذا المثل لتمتع الكافرين ببغيهم وإمهالهم عليه ، ويزيد تلك الإشارة وضوحاً قوله : { وظن أهلها أنهم قادرون عليها } المؤذنُ بأن أهلها مقصودون بتلك الإصابة .
ومعنى : { أنهم قادرون عليها } أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها ، فأطلق على التمكن من الانتفاع ودوامه لفظ القدرة على وجه الاستعارة .
والحصيد : المحصود ، وهو الزرع المقطوع من منابته . والإخبار عن الأرض بحصيد على طريقة المجاز العقلي وإنما المحصود نباتها . ومعنى { لم تغْنَ } لم تَعْمُر ، أي لم تعمر بالزرع . يقال : غَنِي المكان إذا عَمَر . ومنه المغنَى للمكان المأهول . وضد أغنى أقفر المكان .
والباء في { بالأمس } للظرفية . والأمس : اليوم الذي قبل يومك . واللام فيه مزيدة لتملية اللفظ مثل التي في كلمة الآن . والمراد بالأمس في الآية مطلق الزمن الذي مضى لأن أمس يستعمل بمعنى ما مضى من الزمان ، كما يستعمل الغد في معنى المستقبل واليوم في معنى الحال . وجمَعَها قولُ زهير :
وأعلم عِلم اليوم والأمسِ قبلَه *** ولكنني عن عِلم ما في غد عَمِ
وجملة : { كذلك نفصل الآيات } إلى آخرها تذييل جامع ، أي مثل هذا التفصيل نفصل أي نبين الدلالات كلها الدالة على عموم العلم والقدرة وإتقان الصنع . فهذه آية من الآيات المبينة وهي واحدة من عموم الآيات . وتقدم نظيره في قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيلَ المجرمين } في سورة [ الأنعام : 55 ] .
واللام في لقوم يتفكرون } لام الأجْل .
والتفكر : التأمل والنظر ، وهو تفعل مشتق من الفكر ، وقد مر عند قوله تعالى : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون } في سورة [ الأنعام : 50 ] . وفيه تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بالآيات ليسوا من أهل التفكر ولا كان تفصيل الآيات لأجلهم . وتقدم ذكر لفظ القوم غير مرة في هذه السورة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام} يقول: مثل الدنيا كمثل النبت بينا هو أخضر، إذا هو قد يبس، فكذلك الدنيا إذا جاءت الآخرة، يقول: أنزل الماء من السماء، فأنبت به ألوان الثمار لبني آدم، وألوان النبات للبهائم،
{حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} يعني حسنها وزينتها،
{وظن أهلها} يعني وأيقن أهلها {أنهم قادرون عليها} في أنفسهم، {أتاها أمرنا} يعني عذابنا {ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا}، يعني ذاهبا،
{كأن لم تغن بالأمس} يعني تنعم بالأمس،
{كذلك}، يعنى هكذا تجيئ الآخرة، فتذهب الدنيا ونعيمها وتنقطع عن أهلها، {نفصل الآيات}، يعني نبين العلامات {لقوم يتفكرون} في عجائب الله وربوبيته.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها مع ما قد وكل بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت، "كَمثل ماءٍ أنْزَلْنَاهُ مِنَ السّماءِ "يقول: كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض، "فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ" يقول: فنبت بذلك المطر أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض...
وقوله: "حتى إذَا أخَذَت الأرْضُ زُخْرُفَها" يعني: ظهر حسنها وبهاؤها. "وَازّيّنَتْ" يقول: وتزينت. "وَظَنّ أهْلُها" يعني: أهل الأرض، "أنّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا" يعني: على ما أنبتت، وخرج الخبر عن الأرض، والمعنى للنبات، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عني به. وقوله: "أتاها أمْرُنا لَيْلاً أوْ نَهارا" يقول: جاء الأرض "أمرنا" يعني: قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلاً وإما نهارا. "فَجَعَلْناها" يقول: فجعلنا ما عليها، "حَصِيدا" يعني مقطوعة مقلوعة من أصولها، وإنما هي محصودة صرفت إلى حصيد، "كأنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ" يقول: كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتة قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس، وأصله: من غني فلان بمكان كذا، يَغْنَى به: إذا أقام به... يقول: فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها حتى صارت "كأنْ لَمْ تَغْنَ بالأمْسِ": كأن لم تكن قبل ذلك نباتا على ظهرها. يقول الله جلّ ثناؤه: "كَذلكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ" يقول: كما بينا لكم أيها الناس مثل الدنيا وعرّفناكم حكمها وأمرها، كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ونظر، وخصّ به أهل الفكر، لأنهم أهل التمييز بين الأمور والفحص عن حقائق ما يعرض من الشبه في الصدور...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: في ضرب مثل الحياة الدنيا بالزرع الذي ذكر وجوه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) في سرعة فنائها وانقطاعها ووجوب زوالها مثل ذلك الزرع الذي ذكر في سرعة هلاكه وانقطاعه وزواله عن صاحبه. أو أن يقال: إنما مثل الحياة الدنيا فيما يسر به ويبتهج مثل صاحب الزرع الذي ذكر، فيما سر به وابتهج، ثم كان ما ذكر: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما مثل الحياة الدنيا فيما ينفقون فيها، مثل صاحب الزرع الذي ذكر ينفق عليه لما يأمل من المنافع ويطمع منه ثم كان ما ذكر ولو علم في الابتداء أن أمر زرعه يؤول ويصير إلى ما صار لكان لا ينفق؛ فعلى ذلك صاحب الحياة الدنيا لو علم أن عاقبة أمر نفقته تصير حسرة عليه وندامة ما أنفق، كما أن صاحب الزرع الذي ذكر وبلغ المبلغ الذي ذكر لو علم أن عاقبته كما كان ما أنفق عليه، أو لو علم أنه لا ينتفع به ما أنفق تلك النفقة، أي: لو علم أن سروره وابتهاجه به لا يبقى ولا يدوم إلى آخره ما تكلف ذلك، أو لو علم أنها تزول عنه وتنقطع في تلك السرعة ما أنفق ذلك وما تكلف الذي تكلف.
ويحتمل ضرب مثل الحياة الدنيا بما ذكر من النبات وجهين:
أحدهما: يخبر عن سرعة زوالها وانقطاعها كالنبات الذي ذكر أنه يتسارع إلى الزوال والانقطاع لما يصيبه من الآفة فعلى ذلك الدنيا.
والثاني يخبر عن تغيرها وانقلاب أمرها كالنبات، الذي يتغير في أدنى مدة ووقت...
وقوله: (أَتَاهَا أَمْرُنَا) قيل: عذابنا سمي أمرًا؛ لأنه بأمره أتاه، وفيه أنه لم يأته عن غفلة وسهو، ولكن عن علم وأمر؛ عظة لهم وتنبيهًا؛ ألا ترى أنه قال: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) كأن الآيات في هذا الموضع المواعظ، أي: فيما ذكر من ضرب مثل الحياة الدنيا بالنبات والزرع الذي ذكر عظة وتنبيه لمن تفكر فيه، واللَّه أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
المثل: قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول...
"فاختلط به نبات الارض" فالاختلاط: تداخل الأشياء بعضها في بعض فربما كان على صفة مدح، وربما كان على صفة ذم.
وقوله "حتى اذا أخذت الأرض زخرفها" فالزخرف: حسن الألوان كالزهر الذي يروق البصر، ومنه قيل زخرفت الجنة لأهلها.
"وظن أهلها أنهم قادرون عليها" معناه ظنوا أنهم قادرون على استصحاب تلك الحال منها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شَبّهَ الحياةَ الدنيا بالماء المُنَزَّلِ من السماء يَنْبُتُ به النباتُ وتَخْضَرُّ الأرضُ وتَظْهَرُ الثمار، ويوطِّن أربابُها عليها نفوسَهم فتصيبهم جائحةٌ سماوية بغتةً، وتصير كأن لم تكن. كذلك الإنسانُ بعد كمال سنَّه وتمام قُوَّتِه واستجماع الخصال المحمودة فيه تخْتَرمُه المَنِيَّة، وكذلك أموره المنتظمةُ تبطل وتختلُّ لوفاته...
ومن وجوه تشبيه الأحوال الدنيوية بالماء المُنَزَّلِ من السماء أن المطرَ لا ينزل بالحيلة، كذلك الدنيا لا تساعدها إلا القسمة. ثم إن المطر إن كان لا يجيئ إلا بالتقدير فقد يُسْتَسْقَى... كذلك الرزق -وإنْ كان بالقسمة- فقد يُلْتَمَسُ من الله ويُسْتَعْطى.
ومنها أن الماء في موضعه سببُ حياة الناس، وفي غير موضعه سببُ خراب الموضع، كذلك المال لمستحقه سببُ سلامته، وانتفاع المتصلين به، وعند مَنْ لا يستحقه سبب طغيانِه، وسببُ بلاءِ مَنْ هو متصل به، كما قيل: نعمُ الله لا تُعاب ولكنه ربما استعجم على إنسان..
ومنها أن الماء إذا كان بمقدارٍ كان سببَ الصلاح، وإذا جاوز الحدَّ كان سببَ الخراب... كذلك المال إذا كان بقَدْرِ الكفاية والكفاف فصاحبه مُنَعَّمٌ، وإذا زاد وجاوز الحدَّ أوجب الكُفران والطغيان.
ومنها أن الماءَ ما دام جارياً كان طيباً، فإذا طال مكثه تغيَّر.. كذلك المال إذا أنفقه صاحبُه كان محموداً، فإذا ادَّخَره وأمسكه كان معلولاً مذموماً.
ومنها أن الماءً إذا كان طاهراً كان حلالاً يصلح للشرب ويصلح للطهور ولإزالة الأذى، وإذا كان غيرَ طاهرٍ فبالعكس... كذلك المال إذا كان حلالاً، وبعكسه لو كان حراماً. ويقال كما أن الربيعَ تتورد أشجارُه، وتظهر أنوارُه، وتخضرُّ رباعُه، وتتزين بالنبات وهاده وتِلاعه لا يُؤْمَن أَنْ تصيبه آفة من غير ارتقاب، وينقلب الحال بما لم يكن في الحساب. كذلك مِنَ الناسِ مَنْ تكون له أحوالٌ صافية، وأعمالٌ بشرط الخلوص زاكية؛ غصونُ أُنسِه مُتَدَلِّية، ورياضُ قربِه مونقةٌ... ثم تصيبه عَيْنٌ فيذبل عودُ وِصاله، وتنسدُّ أبوابُ عوائد إقباله..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وتكاثف، وزين الأرض بخضرته ورفيفه {فاختلط بِهِ}: فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً {أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت} كلام فصيح: جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين. وأصل {ازّينت} تزينت، فأدغم... {قَادِرُونَ عَلَيْهَا}: متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، رافعون لعلتها {أَتَاهَا أَمْرُنَا} وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم، {فَجَعَلْنَاهَا}: فجعلنا زرعها {حَصِيداً} شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ}: كأن لم يغن زرعها، أي لم ينبت على حذف المضاف في هذه المواضع لا بدّ منه، وإلاّ لم يستقم المعنى.
اعلم أنه تعالى لما قال: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} أتبعه بهذا المثل العجيب الذي ضربه لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا، ويشتد تمسكه بها، ويقوي إعراضه عن أمر الآخرة والتأهب لها، فقال: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض} وهذا الكلام يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المعنى فاختلط به نبات الأرض بسبب هذا الماء النازل من السماء، وذلك لأنه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع كثيرة من النبات، وتكون تلك الأنواع مختلطة، وهذا فيما لم يكن نابتا قبل نزول المطر.
والثاني: أن يكون المراد منه الذي نبت، ولكنه لم يترعرع ولم يهتز، وإنما هو في أول بروزه من الأرض ومبدأ حدوثه، فإذا نزل المطر عليه، واختلط بذلك المطر، أي اتصل كل واحد منهما بالآخر اهتز ذلك النبات وربا وحسن، وكمل واكتسى كمال الرونق والزينة، وهو المراد من قوله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت}...
واعلم أن تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوها لخصها القاضي رحمه الله تعالى...
والوجه الخامس: لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد، وذلك لأنا نرى الزرع الذي قد انتهى إلى الغاية القصوى في التربية، قد بلغ الغاية في الزينة والحسن. ثم يعرض للأرض المتزينة به آفة، فيزول ذلك الحسن بالكلية، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى. فذكر هذا المثال ليدل عل أن من قدر على ذلك، كان قادرا على إعادة الأحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
{كذلك نفصل الآيات} أي نذكر واحدة منها بعد الأخرى، على الترتيب. ليكون تواليها وكثرتها سببا لقوة اليقين، وموجبا لزوال الشك والشبهة
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان السياق لإثبات البعث وتخويفهم به وكانوا ينكرونه ويعتقدون بقاء الدنيا وأنها إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع دائماً بلا انقضاء فهي دار يرضى بها فيطمئن إليها، وللتنفير من البغي والتعزز بغير الحق، وكانت الأمثال أجلى لمحال الأشكال، قال تعالى ممثلاً لمتاعها قاصراً أمرها على الفناء رداً عليهم في اعتقاد دوامها من غير بعث: {إنما} فهو قصر قلب {مثل الحياة الدنيا} التي تتنافسون فيها في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله {كماء أنزلناه} أي بما لنا من العظمة وحقق أمره وبينه بقوله: {من السماء} فشبهه بأمر النبات وأنه قليل يبلغ منتهاه فتصبح الأرض منه بلاقع بعد ذلك الاخضرار والينوع، وفي ذلك إشارة إلى البعث وإلى أنه تعالى قادر على ضربة قبل نهايته أو بعدها ببعض الآفات كما يوجد في بعض السنين، فيقفرون منه ويفتقرون إليه، وفي ذلك تحذير عظيم {فاختلط} أي بسبب إنزالنا له {به} أي بسبب تليينه ولطافته {نبات الأرض} عموماً في بطنها {مما يأكل الناس} أي كافة {والأنعام} من الحبوب والثمار والبقول فظهر على وجهها {حتى} ولم يزل كذلك ينمو ويزيد في الحسن والجرم؛ ولما كان الخصب هو الأصل، عبر عنه بأداة التحقيق فقال: {إذا} ولما كانت بهجة النبات تابعة للخصب، فكان الماء كأنه يعطيها إياها فتأخذه، قال: {أخذت الأرض} أي التي لها أهلية النبات {زخرفها وازينت} بأنواع ذلك النبات زينة منها الجلي ومنها الخفي -بما يفهمه الإدغام {وظن أهلها} أي ظناً مؤكداً جداً بما أفاده العدول عن "قدرتهم "إلى {أنهم قادرون} أي ثابتة قدرتهم {عليها} باجتناء الثمرة من ذلك النبات وغاب عنهم لجهلهم علم العاقبة، فلما كان ذلك {أتاها أمرنا} أي الذي لا يرد من البرد أو الحر المفرطين {ليلاً أو نهاراً فجعلناها} أي زرعها وزينتها بعظمتها بسبب ذلك الأمر وتعقيبه بالإهلاك {حصيداً} وعبر بما فهمه فعيل من المبالغة والثبات بقوله: {كأن} أي كأنها {لم تغن} أي لم تكن غانية أي ساكنة حسنة غنية ذات وفر مطلوبة مرغوباً فيها أي زرعها وزينتها {بالأمس} فكان حال الدنيا في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله كحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وزين الأرض بخضرته وألوانه وبهجته.
ولما كان هذا المثل في غاية المطابقة للساعة، هز السامع له فازداد عجبه من حسن تفصيله بعد تأصيله فقيل جواباً له: {كذلك} أي مثل هذا التفصيل الباهر {نفصل} أي تفصيلاً عظيماً {الآيات لقوم} أي ناس أقوياء فيهم قوة المحاولة لما يريدون {يتفكرون} أي يجددون الفكر على وجه الاستمرار والمبالغة؛ والمثل: قول سائر يشبه فيه الحال الثاني بالأول؛ والاختلاط: تداخل الأشياء بعضها في بعض؛ والزخرف: حسن الألوان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما كان سبب ما ذكر من البغي في الأرض وإفساد العمران هو الإفراط في حب التمتع بما في الدنيا من الزينة واللذات ضرب لها مثلا بليغا يصرف العاقل عن الغرور بها، ويهديه إلى القصد والاعتدال فيها، واجتناب التوسل إليها بالبغي والظلم، وحب العلو والفساد في الأرض، وهو عبارة عن تشبيه زينتها ونعيمها في افتتان الناس بهما، وسرعة زوالهما بعد تمكنهم من الاستمتاع بها، بحال الأرض يسوق الله إليها المطر فتنبت أنواع النبات الذي يسر الناظرين ببهجته، فلا يلبث أن تنزل به جائحة تحسه وتستأصله قبيل بدو صلاحه والانتفاع به، قال عزّ وجلّ:
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} أي لا شبه لها في صورتها ومآلها إلا ماء المطر في جملة حالها الآتية.
{فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} أي فأنبت الأرض أزواجا شتى من النبات تشابكت بسببه، واختلط بعضها ببعض في تجاورها وتقاربها، على كثرتها واختلاف أنواعها.
{مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ} بيان لأزواج النبات وكونها شتى كافية للناس في أقواتهم ومراعي أنعامهم، وكل مرامي آمالهم.
{حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وازَّيَّنَتْ} أي حتى كانت الأرض بها في خضرة زروعها السندسية، وألوان أزهارها الربيعية، كالعروس إذا أخذت حليها من الذهب والجواهر، وحللها من الحرير الملون بالألوان المختلفة ذات البهجة، فتحلت وازينت بها استعداد للقاء الزوج، ولا تغفل عن حسن الاستعارة في أخذ الأرض زينتها- حتى كان استكمال جمالها، كأنه فعل عاقل حريص على منتهى الإبداع والإتقان فيها {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل: 88].
{وظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} متمكنون من التمتع بثمراتها، وادخار غلاتها.
{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} أي نزل بها في هذا الحال أمرنا المقدر لإهلاكها بجائحة سماوية ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم غافلون.
{فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} أي كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها، فالحصيد يشبه به الهالك من الأحياء كما قال في أهل القرية الظالمة المهلكة {فجعلناهم حصيدا خامدين} [الأنبياء: 15]، ويشبه هذا الهلاك في نزوله في وقت لا يتوقعه فيه أهله قوله: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون} [الأعراف: 97، 98].
{كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} أي هلكت فجأة فلم يبق من زروعها شيء، حتى كأنها لم تنبت ولم تمكث قائمة نضرة بالأمس، يقال: غني في المكان إذا أقام به طويلا كأنه استغنى به عن غيره، قال تعالى في الأقوام الهالكين في أرضهم {كأن لم يغنوا فيها} [الأعراف: 92]، والأمس الوقت الماضي، وقال الزمخشري في الكشاف: والأمس مثل في الوقت القريب، كأنه قيل: كأن لم تغن آنفا اه، وأما "أمس "غير معرف فهو اسم لليوم الذي قبل يومك.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي كهذا المثل في جلائه وتمثيله لحقيقة حال الحياة الدنيا وغرور الناس فيها وسرعة زوالها، عند تعلق الآمال بنوالها، نفصل الآيات في حقائق التوحيد وأصول التشريع وأمثال الوعظ والتهذيب، وكل ما فيه صلاح الناس في عقائدهم وأنفسهم وأخلاقهم ومعاشهم واستعدادهم لمعادهم، لقوم يستعملون عقولهم وأفكارهم فيها، ويزنون أعمالهم بموازينها، فيتبينون ربحها وخسرانها.
والعبرة لمسلمي عصرنا في هذه الآيات البينات المنزلة وأمثالها التي اهتدى بها الشعب العربي، فخرج من شركه وخرافاته وأميته وبداوته إلى نور التوحيد والعلم والحكمة والحضارة، ثم اهتدى بدعوته إليها الملايين من شعوب العجم، فشاركته في هذه السعادة والنعم، إنه لم يبق لهم حظ منها إلا ترتيلها بالنغمات في بعض المواسم والمآتم، ولا يخطر لهم ببال أنه يجب عليهم التفكر فيها للاهتداء بها، ولو تفكروا لاهتدوا، وإذا لعلموا أن كل ما يشكو منه البشر من الشقاء بالأمراض الاجتماعية والروحية، والرذائل النفسية، والعداوات القومية، والحروب الدولية، فإنما سببه التنافس في متاع هذه الحياة الدنيا، وأن من تفكر في هذا -وكان على بصيرة منه- فهو جدير بأن يلتزم القصد والاعتدال في حياته الدنيوية المادية، ويصرف جل ماله وهمته في إعلاء كلمة الله وعزاه أهل ملته، وقوة دولته، والاستعداد لآخرته، فيكون من أهل سعادة الدارين.
وما صرف الناس عن هذا الاهتداء بكتاب الله- وهو أعلى وأكمل ما أنزله الله- إلا علماء السوء المقلدون الجامدون، وزعمهم الباطل أنه لم يبق في البشر أحد أهلا للاهتداء به وببيان الرسول صلى الله عليه وسلم له، لأن هذا يتوقف على ما يسمونه الاجتهاد، ويزعمون أنه أصبح ضربا من المحال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما قيمة (متاع الحياة الدنيا) هذا وما حقيقته؟ يصور السياق هذه الحقيقة في مشهد من مشاهد القرآن التصويرية الحافلة بالحركة والحياة، وهي مع ذلك من المشاهدات التي تقع في كل يوم، ويمر عليها الأحياء دون انتباه: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام. حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها.. أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).. ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يملك الناس إلا متاعها، حين يرضون بها، ويقفون عندها، ولا يتطلعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى.. هذا هو الماء ينزل من السماء، وهذا هو النبات يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر. وها هي ذي الأرض كأنها عروس مجلوة تتزين لعرس وتتبرج. وأهلها مزهوون بها، يظنون أنها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزينت، وأنهم أصحاب الأمر فيها، لا يغيرها عليهم مغير، ولا ينازعهم فيها منازع. وفي وسط هذا الخصب الممرع، وفي نشوة هذا الفرح الملعلع، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق.. (أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس).. في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة.. وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عرض مشهد الخصب والزينة والاطمئنان. وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعض الناس، ويضيعون الآخرة كلها لينالوا منها بعض المتاع هذه هي. لا أمن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يملك الناس من أمرها شيئا إلا بمقدار. هذه هي..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة {متاع الحياة الدنيا} [يونس: 23] المؤذنة بأن تمتعهم بالدنيا ما هو إلا لمدة قصيرة، فبينت هذه الآية أن التمتع صائر إلى زوال، وأطنبت فشبهت هيئة التمتع بالدنيا لأصحابها بهيئة الزرع في نضارته ثم في مصيره إلى الحصد. والمثَل: الحال الماثلة على هيئة خاصة، كان التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة. عبر عن ذلك بلفظ المثل الذي شاع في التشبيه المركب كما تقدم في أول سورة البقرة. وصيغة القصر لتأكيد المقصُود من التشبيه وهو سرعة الانقضاء. ولتنزيل السامعين منزلة من يحسب دوام بهجة الحياة الدنيا لأن حالهم في الانكباب على نعيم الدنيا كحال من يحسب دوامه وينكر أن يكون له انقضاء سريع ومفاجئ. والمعنى: قصرُ حالة الحياة الدنيا على مشابهة حالة النبات الموصوف، فالقصر قصر قلب، بني على تنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد عكس تلك الحالة. شبهت حالة الحياة في سرعة تقضيها وزوال نعيمها بعد البهجة به وتزايد نضارتها بحال نبات الأرض في ذهابه حطاماً ومصيره حصيداً. ومن بديع هذا التشبيه تضمنه لتشبيهات مفرقة من أطوار الحالين المتشابهين بحيث يصلح كل جزء من هذا التشبيه المركب لتشبيه جزءٍ من الحاليْن المتشابهين، ولذلك أطنب وصف الحالين من ابتدائه. فقوله: {كماء أنزلناه من السماء} شُبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا إذ ليس ثمة سوى الأمل في نعيم العيش ونضارته، فذلك الأمل يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه سبب ما يؤمَّل منه مِن زخرف الأرض ونضارتها. وقوله: {فاختلط به نبات الأرض} شُبه به طور ابتداء نضارة العيش وإقبال زهرة الحياة، فذلك يشبه خروج الزرع بعيد المطر فيما يشاهد من بوارق المأمول، ولذلك عطف بفاء التعقيب للإيذان بسرعة ظهور النبات عقب المطر فيؤذن بسرعة نماء الحياة في أول أطوارها. وعبر عنه بالاختلاط بالماء بحيث ظهر قبل جفاف الماء، أي فاختلط النبات بالماء أي جاوره وقارنه. وقوله: {مما يأكل الناس والأنعام} وصف لنبات الأرض الذي منه أصناف يأكلها الناس من الخضروات والبقول، وأصنافٌ تأكلها الأنعام من العشب والكلأ، وذلك يشبَّه به ما ينعَم به الناس في الحياة من اللذات وما ينعم به الحيوان، فإن له حظاً في نعيم الحياة بمقدار نطاق حياته. ولما كان ذلك قد تضمن المأكول والآكل صح أن تُشبه به رغَبات الناس في تناول لذائذ الحياة على حسب اختلاف مراتب الهمم، وذلك يتضمن تشبيه معالي الأمور من نعم الدنيا التي تسمو إليها الهمم العوالي بالنبات الذي يقتاته الناس، وتشبيهَ سفاسف الأمور بالنبات الذي يأكله الأنعام، ويتضمن تشبيه الذين يجنحون إلى تلك السفاسف بالأنعام، كقوله تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام} [محمد: 12]. والقول في {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} كالقول في قوله: {حتى إذا كنتم في الفلك} [يونس: 22]، وهو غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها ونسيانهم المصير إلى الفناء. وأمر الله: تقديره وتكوينه. وإتيانه: إصابة تلك الأرض بالجوائح المعجلة لها باليبس والفناء. وفي معنى الغاية المستفادِ من (حتى) ما يؤذن بأن بين مبدأ ظهور لذات الحياة وبين منتهاها مراتب جمة وأطواراً كثيرة، فذلك طوي في معنى (حتى)..
وقوله: {ليلاً أو نهاراً} ترديد في الوقت لإثارة التوقع من إمكان زوال نضارة الحياة في جميع الأزمنة لأن الشيء الموقت بمعين من التوقيت يكون الناس في أمن من حلوله في غير ذلك الوقت.
ومعنى: {أنهم قادرون عليها} أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها، فأطلق على التمكن من الانتفاع ودوامه لفظ القدرة على وجه الاستعارة.
والحصيد: المحصود، وهو الزرع المقطوع من منابته. والإخبار عن الأرض بحصيد على طريقة المجاز العقلي وإنما المحصود نباتها. ومعنى {لم تغْنَ} لم تَعْمُر، أي لم تعمر بالزرع. يقال: غَنِي المكان إذا عَمَر. ومنه المغنَى للمكان المأهول. وضد أغنى أقفر المكان.