فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا يَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَآ أَنَّهُمۡ قَٰدِرُونَ عَلَيۡهَآ أَتَىٰهَآ أَمۡرُنَا لَيۡلًا أَوۡ نَهَارٗا فَجَعَلۡنَٰهَا حَصِيدٗا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (24)

ثم لما ذكر سبحانه ما تقدم من متاع الدنيا جاء بكلام مستأنف يتضمن بيان حالها وسرعة تقتضيها وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود به ، بعد أن تملأ الأعين برونقها وتخلب النفوس ببهجتها وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضا ويهتكوا حرمهم حبا لها وعشقا لجمالها الظاهري ، وتكالبا على التمتع بها وتهافتا على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب التشبيه المركب العجيب البديع المثال المنتظم في سلك الأمثال فقال .

{ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } أي إن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف ما كانت عليه ويباينه مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه وذهاب بهجته وسرعة تقتضيه ، بعد أن كان غضبا مخضرا طريا قد تعانقت أغصانه المتمايلة وزهت أوراقه المتصافحة ، وتلألأت أنواع نوره وحاكت الزهر أنواع زهره ، وإنما ليست للحصر لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالا غير هذا وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله كماء بل ما يفهم من الكلام .

{ فاختلط به } أي بسببه { نبات الأرض } بأن اشتبك بعضه ببعض لكثرته حتى بلغ إلى حد الكمال ، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدأ حدوثه غير مهتز ، ولا مترعرع فإذا نزل الماء عليه اهتز ، وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض { مما يأكل الناس والأنعام } أي كائنا من الحبوب والثمار والكلأ والتبن والعشب .

{ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } قال في الصحاح : الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزور . 1ه .

وفي القاموس الزخرف بالضم الذهب وكمال حسن الشيء ، ومن القول حسنه ، ومن الأرض ألوان نباتها والمعنى أن الأرض استوفت واستكملت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب وبعضه للون الفضة وبعضه للون الياقوت وبعضه للون الزمرد وحتى غاية لمحذوف أي ما زال ينمو ويزهر حتى أخذت حسنها ونضارتها وبهجتها وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأخضر وأحمر وأصفر وغير ذلك .

{ وازينت } أي تزينت به ، وقرئ أزينت على وزن أفعلت أي أزينت بالزينة التي عليها شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألوانا كثيرة ففي الكلام استعارة مكنية .

{ وظن أهلها } أي أهل تلك الأرض الآخذة زخرفها { إنهم قادرون عليها } أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها متمكنون على جدادها وقطافها ، والضمير في عليها للأرض والمراد النبات الذي هو عليها .

{ أتاها } أي جاءها { أمرنا } بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات { ليلا أو نهارا } أو للتنويع أي تارة يأتي قضاؤنا وعذابنا ليلا وتارة يأتي نهارا { فجعلناها حصيدا } أي جعلنا زرعها شبيها بالمحصود في قطعه من أصوله قال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل وقيل المقطوع بالمناجل .

{ كأن لم تغن بالأمس } أي كأن لم يكن زرعها موجودا فيها بالأمس مخضرا طريا ، من غني بالمكان بالكسر يغني بالفتح إذا أقام ، قال البيضاوي : أي لم تلبث أي لم تقم ولم تمكث .

وقيل لم تكن ولم توجد ، وفي القاموس ما يقتضي أن غني يأتي بمعنى كان ووحد كقوله غنيت دارنا بتهامة أي كانت لها .

والمراد بالأمس الوقت القريب والزمن الماضي لا خصوص اليوم الذي قبل يومك ، قاله الكرخي ، والمغاني في اللغة المنازل ، وقال قتادة : كأن لم ينعم ، وقرأ { لم يغن } بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف قرأ من عده { تغن } بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض .

{ كذلك } أي مثل ذلك التفصيل البديع { نفصل الآيات } القرآنية من جملتها هذه الآيات المنبهة على أحوال الدنيا ، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية { لقوم يتفكرون } فيما اشتملت عليه ، عن أبي مجلز قال : كان مكتوبا في سورة يونس على جنب هذه الآية { ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى ثالثا ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب } فمحيت .

قال النسفي في الآية : هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه ، وذهابه حطاما بعد ما التفت وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه ، والتنبيه على حكمه التشبيه أن الحياة صفوها شبيبتها وكدرها كما أن صفو الماء في أعلى الإناء :

ألم تر أن العمر كأس سلافة فأوله صفو وآخره كدر .

وحقيقته تزيين الطين بمصالح الدنيا والدين كاختلاط النبات على اختلاف التلوين ، فالطينة الطيبة تنبت بساتين الأنس ورياحين الروح وزهرة الزهد وكروم الكرم ، وحبوب الحب ، وحدائق الحقيقة وشقائق الطريقة .

والخبيثة تخرج خلاف الخلف ، وثمام الإثم وشوك الشرك ، وشيح الشح وحطب العطب ولعاع اللعب .

ثم يدعوه معاده ، كما يحين للحرث حصاده ، فتزايله الحياة مغترا كما يهيج النبات مصفرا ، فتغيب جثته في الرمس كأن لم تغن بالأمس على أن يعود ربيع البعث وموعد العرض والبحث .

وكذلك حال الدنيا كالماء ينفع قليله ، ويهلك كثيرة ولا بد من ترك ما زاد ، كما لا بد من أخذ الزاد وأخذ المال لا يخلو من زلة ، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة ، وجمعه وإمساكه ، تلف صاحبه وإهلاكه فيما دون النصاب كضحضاح ماء ، يجاوز بلا احتماء ، والنصاب كنهر حائل بين المجتاز والجواز على المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة وعمارتها بذل الصلاة فمتى اختلت القنطرة غرقته أمواج القناطير المقنطرة .

وكذا المال يساعد الأوغاد دون الأمجاد ، كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد وكذلك المال لا يجتمع إلا بكد البخيل ، كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل ثم يفنى ويتلف ولا يبقى كالماء في الكف انتهى .