لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا يَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَآ أَنَّهُمۡ قَٰدِرُونَ عَلَيۡهَآ أَتَىٰهَآ أَمۡرُنَا لَيۡلًا أَوۡ نَهَارٗا فَجَعَلۡنَٰهَا حَصِيدٗا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (24)

قوله عز وجل : { إنما مثل الحياة الدنيا } يعني في فنائها وزوالها { كماء أنزلناه من السماء } يعني المطر { فاختلط به } أي بالمطر { نبات الأرض } قال ابن عباس : نبت بالماء من كل لون { مما يأكل الناس } يعني من الحبوب والثمار { والأنعام } يعني ومما يأكل الأنعام من الحشيش ونحوه { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } يعني حسنها ونضارتها وبهجتها وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من الزهور { وازينت } أي وتزينت { وظن أهلها } يعني أهل تلك الأرض { أنهم قادرون عليها } يعني على جذاذها وقطافها وحصادها ، رد الكناية إلى الأرض والمراد النبات إذ كان مفهوماً . وقيل : رده إلى الثمرة والغلة وقيل : إلى الزينة { أتاها أمرنا } أي قضاؤنا بهلاكها { ليلاً أو نهاراً } يعني في الليل أو النهار { فجعلناها حصيداً } يعني محصودة مقطوعة { كأن لم تغن بالأمس } يعني : كأن لم تكن تلك الأشجار والنبات الزروع نابتة قائمة على ظهر الأرض وأصله من غنى فلان بالمكان إذا أقام به وهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمتشبثين بالدنيا الراغبين في زهرتها وحسنها . وذلك أنه تعالى لما قال : يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ، أتبعه بهذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وأعرض عن الآخرة لأن النبات في أول بروزه من الأرض ومبدأ خروجه يكون ضعيفاً فإذا نزل عليه المطر واختلط به قوي وحسن واكتسى كمال الرونق والزينة وهو المراد من قوله حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت يعني بالنبات والزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء وجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون حسن من حمرة وخضرة وصفرة وبياض ولا شك أن الأرض متى كانت على هذه الصفة فإنه يفرح بها صاحبها ويعظم رجاؤه في الانتفاع بها وبما فيها ثم إن الله سبحانه وتعالى أرسل على هذه الأرض صاعقة أو برداً أو ريحاً فجعلها حصيداً كأن لم تكن من قبل .

قال قتادة : إن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون .

ووجه التمثيل ، أن غاية هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه ، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذاتها . وقيل : يحتمل أن يكون ضرب هذا المثل لمن ينكر المعاد والبعث بعد الموت وذلك ، لأن الزرع إذا انتهى وتكامل في الحسن إلى الغاية القصوى أتته آفة فتلف بالكلية . ثم إن الله سبحانه وتعالى قادر على إعادته كما كان أول مرة فضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل ليدل على أن من قدر على إعادة ذلك النبات بعد التلف كان قادراً على إعادة الأموات أحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم فيثيب الطائع ويعاقب العاصي .

{ كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } يعني : كما بينا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفنا كم حكمها ، كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ليكون ذلك سبباً موجباً لزوال الشك والشبهة من القلوب .