قوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم } ، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب { يكن } بالياء ، لأن الفتنة بمعنى الافتتان ، فجاز تذكيره ، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم { فتنتهم } بالرفع جعلوه اسم كان ، وقرأ الآخرون بالنصب ، فجعلوا الاسم قوله إن قالوا ، وفتنتهم الخبر ، ومعنى قوله { فتنتهم } أي : قولهم ، وجوابهم ، وقال ابن عباس وقتادة : معذرتهم ، والفتنة التجربة ، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل فتنة . قال الزجاج في قوله { ثم لم تكن فتنتهم } معنى لطيف ، وذلك مثل الرجل يفتن بمحبوب ثم يصيبه فيه محنة ، فيتبرأ من محبوبه ، فيقال : لم تكن فتنتهم إلا هذا ، كذلك الكفار ، فتنوا بمحبة الأصنام ، ولما رأوا العذاب تبرأوا منها ، يقول الله عز وجل : { ثم لم تكن فتنتهم } ومحبتهم الأصنام .
قوله تعالى : { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } . قرأ حمزة والكسائي { ربنا } بالنصب على نداء المضاف ، وقرأ الآخرون بالخفض على نعت والله ، وقيل : إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد ، قالوا بعضهم لبعض : تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو من أهل التوحيد ، فيقولون : { والله ربنا ما كنا مشركين } ، فيختم على أفواههم ، وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر .
وقوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتنهم إلا أن قالوا } الآية قرأ ابن كثير في رواية شبل عنه ، وعاصم في رواية حفص وابن عامر «تكن فتنتُهم » برفع الفتنة و { إلا أن قالوا } في موضع نصب على الخبر ، التقدير إلا قولهم ، وهذا مستقيم لأنه أنث العلامة في الفعل حين أسنده إلى مؤنث وهي الفتنة ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن كثير أيضاً «تكن فتنتهم » بنصب الفتنة ، واسم كان { أن قالوا } ، وفي هذه القراءة تأنيث { أن قالوا } ، وساغ ذلك من حيث الفتنة مؤنثة في المعنى ، قال أبو علي وهذا كقوله تعالى : { فله عشر أمثالها }{[4863]} فأنث الأمثال لما كانت الحسنات بالمعنى ، وقرأ حمزة والكسائي «يكن » بالياء «فتنتَهم » بالنصب واسم كان { إلا أن قالوا } وهذا مستقيم لأنه ذكر علامة الفعل حين أسنده إلى مذكر ، قال الزهراوي وقرأت فرقة «يكن فتنُهم » برفع الفتنة ، وفي هذه القراءة إسناد فعل مذكرالعلامة إلى مؤنث ، وجاء ذلك بالمعنى لأن الفتنة بمعنى الاختبار أو المودة{[4864]} في الشيء والإعجاب ، وقرأ أبي بن وكيع وابن مسعود والأعمش «وما كان فتنتهم » ، وقرأ طلحة بن مصرف ، «ثم كان فتنتهم » والفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به كما تقول فتنت بكذا ، وتحتمل الآية هنا هذا المعنى أي لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها وإتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبري منها والإنكار لها ، وهذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدعي مودة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودتك لفلان إلا أن شتمته وعاديته{[4865]} ، ويقال الفتنة في كلام العرب بمعنى الاختبار ، كما قال عز وجل لموسى عليه السلام :{ وفتناك فتوناً }{[4866]} ، وكقوله تعالى : { ولقد فتنا سليمان وألقينا }{[4867]} وتحتمل الآية هاهنا هذا المعنى لأن سؤالهم عن الشركاء وتوقيفهم اختبار ، فالمعنى ثم لم يكن اختبارنا لهم إذ لم يفد ولا أثمر ، إلا إنكارهم الإشراك ، وتجيء الفتنة في اللغة على معان غير هذين لا مدخل لها في الآية ، ومن قال إن أصل الفتنة الاختبار من فتنت الذهب في النار ، ثم يستعار بعد ذلك في غيره فقد أخطأ ، لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له كقول ذي الرمة : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولَفَّ الُّثرَيَّا في مُلاءتِهِ الفَجْرُ{[4868]}
ونحوه ، والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والله «ربِّنا » خفض على النعت لاسم الله ، وقرأ حمزة والكسائي «ربَّنا » نصب على النداء ، ويجوز فيه تقدير المدح ، وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين «واللهُ ربُّنا » برفع الاسمين وهذا على تقدير تقديم وتأخير ، كأنهم قالوا ما كنا مشركين والله ربنا ، و { ما كنا مشركين } معناه جحود إشراكهم في الدنيا ، فروي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ، ويقال لهم أين شركاؤكم فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان . وأتى رجل ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : { والله ربنا ما كنا مشركين } وفي أخرى { ولا يكتمون الله حديثاً } [ النساء : 42 ] فقال ابن عباس لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا تعالوا فلنجحد ، وقالوا ما كنا مشركين ، فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثاً .
قال القاضي أبو محمد : وعبر بعض المفسرين عن الفتنة هنا بأن قالوا معذرتهم{[4869]} ، قاله قتادة ، وقال آخرون : كلامهم ، قاله الضحاك ، وقيل غير هذا مما هو كله في ضمن ما ذكرناه .
قوله : { ثم لم تكن فتنتهم } عطف على جملة { ثم نقول } و ( ثم ) للترتيب الرتبي وهو الانتقال من خبر إلى خبر أعظم منه .
والفتنة أصلها الاختبار ، من قولهم : فتنَ الذهَب إذا اختبر خلوصه من الغلْث . وتطلق على اضطراب الرأي من حصول خوف لا يصبر على مثله ، لأنّ مثل ذلك يدلّ على مقدار ثبات من يناله ، فقد يكون ذلك في حالة العيش ؛ وقد يكون في البغض والحبّ ؛ وقد يكون في الاعتقاد والتفكير وارتباك الأمور . وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { إنّما نحن فتنة فلا تكفر } في سورة [ البقرة : 102 ] .
{ وفتنتهم } هنا استثني منها { أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين } ، فذلك القول إمّا أن يكون من نوع ما استثني هو منه المحذوف في تفريغ الاستثناء ، فيكون المستثنى منه من الأقوال الموصوفة بأنّها فتنة .
فالتقدير : لم يكن لهم قول هو فتنة لهم إلاّ قولهم { والله ربّنا ما كنا مشركين } .
وإمّا أن يكون القول المستثنى دالاً على فتنتهم ، أي على أنّهم في فتنة حين قالوه . وأيّاً ما كان فقولهم : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } متضمّن أنّهم مفتونون حينئذٍ .
وعلى ذلك تحتمل الفتنة أن تكون بمعنى اضطراب الرأي والحيرة في الأمر ، ويكون في الكلام إيجاز . والتقدير : فافتتنوا في ماذا يجيبون ، فكان جوابهم أن قالوا : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } فعدل عن المقدّر إلى هذا التركيب لأنّه قد علم أنّ جوابهم ذلك هو فتنتهم لأنّه أثرها ومظهرها .
ويحتمل أن يراد بالفتنة جوابهم الكاذب لأنّه يفضي إلى فتنة صاحبه ، أي تجريب حالة نفسه .
ويحتمل أن تكون أطلقت على معناها الأصلي وهو الاختبار . والمراد به السؤال لأنّ السؤال اختبار عمّا عند المسؤول من العلم ، أو من الصدق وضدّه ، ويتعيّن حينئذٍ تقدير مضاف ، أي لم يكن جواب فتنتهم ، أي سؤالهم عن حال إشراكهم إلاّ أن قالوا : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } .
وقرأ الجمهور { لم تكن } بتاء تأنيث حرف المضارعة . وقرأه حمزة ، والكسائي ، ويعقوب بياء المضارعة للغائبة باعتبار أنّ { قالوا } هو اسم ( كان ) . وقرأ الجمهور { فتنتهم } بالنصب على أنّه خبر ( كان ) ، فتكون ( كان ) ناقصة واسمها { إلاّ أن قالوا } وإنّما أخّر عن الخبر لأنّه محصور .
وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم بالرفع على أنّه اسم ( كان ) و { أنْ قالوا } خبر ( كان ) ، فتجعل ( كان ) تامّة . والمعنى لم توجد فتنة لهم إلاّ قولهم : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } ، أي لم تقع فتنتهم إلاّ أن نفوْا أنّهم أشركوا .
ووجه اتّصال الفعل بعلامة مضارعة للمؤنّث على قراءة نصب { فتنتهم } هو أنّ فاعله مؤنَّث تقديراً ، لأنّ القول المنسبك من ( أن ) وصلتها من جملة الفتنة على أحد التأويلين . قال أبو علي الفارسي : وذلك نظير التأنيث في اسم العدد في قوله تعالى : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] ، لأنّ الأمثال لمّا كانت في معنى الحسنات أنّث اسم عددها .
وقرأ الجمهور { ربّنا } بالجرّ على الصفة لاسم الجلالة . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف بالنصب على النداء بحذف حرفه .
وذكرُهم الربّ بالإضافة إلى ضميرهم مبالغة في التنصّل من الشرك ، أي لا ربّ لنا غيره . وقد كذّبوا وحلفوا على الكذب جرياً على سننهم الذي كانوا عليه في الحياة ، لأنّ المرء يحشر على ما عاش عليه ، ولأنّ الحيرة والدهش الذي أصابهم خيّل إليهم أنّهم يموّهون على الله تعالى فيتخلّصون من العقاب . ولا مانع من صدور الكذب مع ظهور الحقيقة يومئذٍ ، لأنّ الحقائق تظهر لهم وهم يحسبون أنّ غيرهم لا تظهر له ، ولأنّ هذا إخبار منهم عن أمر غائب عن ذلك اليوم فإنّهم أخبروا عن أمورهم في الدنيا .
وفي « صحيح البخاري » : أنّ رجلاً قال لابن عباس : إنِّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، فذكر منها قوله : { ولا يكتمون الله حديثاً } [ النساء : 42 ] وقوله : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } . فقد كتموا في هذه الآية . فقال ابن عباس : إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فيقول المشركون تعالوا نقل : ما كنّا مشركين ، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرفوا أنّ الله لا يُكتم حديثاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا}، يعني معذرتهم إلا الكذب حين سئلوا فتبرأوا من ذلك، فقالوا: {والله ربنا ما كنا مشركين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك إذ فتناهم فاختبرناهم، "إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ "كذبا منهم في أيمانهم على قيلهم ذلك.
ثم اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة من قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: «ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ» بالنصب، بمعنى: لم يكن اختبارنا لهم إلاّ قيلهم "وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ" غير أنهم يقرأون "تَكُنْ" بالتاء على التأنيث وإن كانت للقول لا للفتنة لمجاورته الفتنة وهي خبر، وذلك عند أهل العربية شاذّ غير فصيح في الكلام.
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفيين: «ثمّ لَمْ يَكُنْ» بالياء «فِتْنَتَهُمْ» بالنصب "إلاّ أنْ قالُوا..." بنحو المعنى الذي قصده الآخرون الذين ذكرنا قراءتهم، غير أنهم ذكروا "يكون" لتذكير أن، وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب، لأن «أنْ» أثبت في المعرفة من الفتنة.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ"؛
فقال بعضهم: معناه: ثم لم يكن قولهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: معذرتهم.
والصواب من القول في ذلك أن يقال معناه: ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، "إلا أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ" فوضعت الفتنة موضع القول لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما الفتنة: الاختبار والابتلاء، ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلاّ عند الاختبار، وضعت الفتنة التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم.
واختلفت القرّاء أيضا في قراءة قوله: "وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ" فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين والبصريين: "وَاللّهِ رَبِّنا" خفضا على أن «الرب» نعت لله. وقرأ ذلك جماعة من التابعين: «واللّهِ رَبَّنا» بالنصب بمعنى: والله يا ربنا، وهي قراءة عامة قرّاء أهل الكوفة.
وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: «وَاللّهِ رَبّنا» بنصب الربّ، بمعنى: يا ربنا. وذلك أن هذا جواب من المسؤولين المقول لهم: "أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمونَ" وكان من جواب القوم لربهم: والله يا ربنا ما كنا مشركين، فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا.
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: "انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون"، ويعني بقوله: ما كُنّا مُشْرِكِينَ ما كنا ندعوا لك شريكا ولا ندعوا سواك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذا الذي أخبر عنهم غايةُ التمرد؛ حيث جحدوا ما كَذبُوا فيه وأقسموا عليه، ولو كان لهم بالله عِلمٌ بأنه يعلم سِرَّهم ونجواهم، ولا يخفى عليه شيءٌ من أُولاَهم وعُقباهم، لكن الجهل الغالب عليهم استنطقهم بما فيه فضائحهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فِتْنَتُهُمْ} كفرهم. والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم -الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف على الانتفاء من التدين به. ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمي فتنة؛ لأنه كذب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
.. والفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به كما تقول فتنت بكذا، وتحتمل الآية هنا هذا المعنى أي لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها وإتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبري منها والإنكار لها، وهذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدعي مودة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودتك لفلان إلا أن شتمته وعاديته. ويقال الفتنة في كلام العرب بمعنى الاختبار، كما قال عز وجل لموسى عليه السلام: {وفتناك فتوناً}، وكقوله تعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا...} وتحتمل الآية هاهنا هذا المعنى لأن سؤالهم عن الشركاء وتوقيفهم اختبار، فالمعنى ثم لم يكن اختبارنا لهم إذ لم يفد ولا أثمر، إلا إنكارهم الإشراك. وتجيء الفتنة في اللغة على معان غير هذين لا مدخل لها في الآية، ومن قال إن أصل الفتنة الاختبار من فتنت الذهب في النار، ثم يستعار بعد ذلك في غيره فقد أخطأ، لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له... والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه.
المسألة الثانية: قال الزجاج: تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك، وذلك أن الله تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين على حبه، فأعلم في هذه الآية أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤوا منه وتباعدوا عنه، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين، فالمراد بالفتنة هاهنا افتتانهم بالأوثان، ويتأكد هذا الوجه بما روى عطاء عن ابن عباس: أنه قال {ثم لم تكن فتنتهم} معناه شركهم في الدنيا، وهذا القول راجع إلى حذف المضاف لأن المعنى ثم لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة، ومثله قولك ما كانت محبتك لفلان، إلا أن فررت منه وتركته...
والقول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين أن الكفار يكذبون في هذا القول قالوا: والدليل على أن الكفار قد يكذبون في القيامة وجوه: الأول: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} مع أنه تعالى أخبر عنهم بقوله {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} والثاني: قوله تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون} بعد قوله {ويحلفون على الكذب} فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا. والثالث: قوله تعالى حكاية عنهم {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} وكل ذلك يدل على إقدامهم في بعض الأوقات على الكذب. والرابع: قوله حكاية عنهم {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} وقد علموا أنه تعالى لا يقضي عليهم بالخلاص. والخامس: أنه تعالى في هذه الآية حكى عنهم أنهم قالوا {والله ربنا ما كنا مشركين} وحمل هذا على أن المراد ما كنا مشركين في ظنوننا وعقائدنا مخالفة للظاهر. ثم حمل قوله بعد ذلك {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} على أنهم كذبوا في الدنيا يوجب فك نظم الآية، وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة وصرف آخرها إلى أحوال الدنيا وهو في غاية البعد. أما قوله إما أن يكونوا قد كذبوا حال كمال العقل أو حال نقصان العقل فنقول: لا يبعد أن يقال إنهم حال ما عاينوا أهوال القيامة، وشاهدوا موجبات الخوف الشديد اختلت عقولهم فذكروا هذا الكلام في ذلك الوقت وقوله: كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عنهم ما ذكروه في حال اضطراب العقول، فهذا يوجب الخوف الشديد عند سماع هذا الكلام حال كونهم في الدنيا ولا مقصود من تنزيل هذه الآيات إلا ذلك. وأما قوله ثانيا المكلفون لابد أن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقول: اختلال عقولهم ساعة واحدة حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمال عقولهم في سائر الأوقات. فهذا تمام الكلام في هذه المسألة والله أعلم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"ثم لم تكن فتنتهم" الفتنة الاختبار أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال، ورأوا الحقائق، وارتفعت الدواعي. "إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين "تبرؤوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان إخبارهم بغير الواقع في ذلك اليوم مستبعداً بعد رفع الحجاب عن الأهوال وإظهار الزلازل والأوجال. أشار إليه بأداة البعد فقال: {ثم لم تكن فتنتهم} أي عاقبة مخالطتنا لهم بهذا السؤال وأمثاله من البلايا التي من شأنها أن يميل ما خالطته فتحيله -و لو أنه جبل- عن حاله بما ناله من قوارعه وزلزاله إلاّ كذبهم في ذلك الجمع، وهو معنى قوله: {إلاّ أن قالوا} ثباتاً منهم فيما هم عريقون فيه من وصف الكذب: {والله} فذكروا الاسم الأعظم الذي تندك لعظمته الجبال الشم، وتنطق بأمره الأحجار الصم، الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى التي ظهر لهم كثير منها في ذلك اليوم، وأكدوا ذلك بذكر الوصف المذكر بتربيتهم ودوام الإحسان إليهم فقالوا: {ربنا} فلم يقنعوا بمجرد الكذب حتى أقسموا، ولا بمجرد القسم حتى ذكروا الاسم الجامع والوصف المحسن {ما كنا مشركين} أي إن تكذيبهم لك أوصلهم إلى حد يكذبون فيه في ذلك اليوم بعد كشف الغطاء تطمعاً بما لا ينفعهم، كما ترى الحائر المدهوش في الدنيا يفعل مثل ذلك فهو إيئاس من فلاح الجميع: المشركين وأهل الكتاب، أو يكون المعنى تنديماً لهم وتأسيفاً: أنه لم يكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به في لزومه والافتخار به والقتال عليه -لكونه دين الآباء- إلاّ جحوده والبراءة منه والحلف على الانتفاء من التدين به، والمعنى على قراءتي النصب والرفع في "فتنة "على جعلها خبراً أو اسماً واحداً، فمعنى قراء النصب: لم يكن شيء إلاّ قولهم -أي غير قولهم الكذب- فتنتهم، أي لم يكن شيء فتنتهم إلاّ هذا القول، فهذا القول وحده فتنتهم، فنفى عن فتنتهم وسلب عنها كل شيء غير قولهم هذا، فالفتنة مقصورة على قولهم الكذب، والكذب قد يكون ثابتاً لغيرها، أي إنهم يكذبون من غير فتنة، بل في حال الرخاء، وهذا بعينه معنى قراءة ابن كثير وابن عامر وحفص برفع فتنة، أي لم تكن فتنتهم شيئاً غير كذبهم، فقد نفيت فتنتهم عن كل شيء غير الكذب، فانحصرت فيه، ويجوز أن يكون ثابتاً في حال غيرها -على ما مر، وهذا التقدير نفيس عزيز الوجود دقيق المسلك- يأتي إن شاء الله تعالى عند وما كان صلاتهم عند البيت} [الأنفال: 35] في الأنفال ما ينفع هنا فراجعه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ظاهر الآية أنهم ينكرون في بعض مواقف الحشر شركهم بالله توهما منهم أن ذلك ينفعهم أي ويعترفون به في بعضها كما يعلم من آيات أخرى، واستشكل بعض المفسرين هذا المعنى، واحتجوا بأن الإنكار في القيامة متعذر وبأن اعترافهم بالشرك ثابت في بعض الآيات كقوله تعالى حكاية عنهم: {هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} بالنحل: 86]، وقوله: {ولا يكتمون الله حديثا} [النساء:42] وروي أن ابن عباس سئل عن الآية وعن قوله تعالى: {ولا يكتمون الله حديثا} فقال: أما قوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام فقالوا تعالوا لنجحد {قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم {ولا يكتمون الله حديثا} وذهب بعضهم إلى أن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا لأننا ما كنا ندعو غيرك استقلالا بل توسلا إليك ليكون من ندعوهم شفعاء لنا عندك يقربوننا إليك زلفى، لأننا كنا نستصغر أنفسنا أن تتسامى إلى دعائك كفاحا بلا واسطة وما هذا إلا تعظيم لك. وقد أورد على هذا التفسير أنه لا يلتئم مع قوله بعد هذه الحكاية عنهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الحقيقة التي تجلت عنها الفتنه، أو التي تبلورت فيها الفتنة، هي تخليهم عن ماضيهم كله وإقرارهم بربوبية الله وحده؛ وتعريهم من الشرك الذي زاولوه في حياتهم الدنيا.. ولكن حيث لا ينفع الإقرار بالحق والتعري من الباطل.. فهو إذن بلاء هذا الذي تمثله قولتهم وليس بالنجاة.. لقد فات الأوان.. فاليوم للجزاء لا للعمل.. واليوم لتقرير ما كان لا لاسترجاع ما كان..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وفتنتهم} هنا استثني منها {أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين}، فذلك القول إمّا أن يكون من نوع ما استثني هو منه المحذوف في تفريغ الاستثناء، فيكون المستثنى منه من الأقوال الموصوفة بأنّها فتنة. فالتقدير: لم يكن لهم قول هو فتنة لهم إلاّ قولهم {والله ربّنا ما كنا مشركين}. وإمّا أن يكون القول المستثنى دالاً على فتنتهم، أي على أنّهم في فتنة حين قالوه. وأيّاً ما كان فقولهم: {والله ربّنا ما كنّا مشركين} متضمّن أنّهم مفتونون حينئذٍ. وعلى ذلك تحتمل الفتنة أن تكون بمعنى اضطراب الرأي والحيرة في الأمر، ويكون في الكلام إيجاز. والتقدير: فافتتنوا في ماذا يجيبون، فكان جوابهم أن قالوا: {والله ربّنا ما كنّا مشركين} فعدل عن المقدّر إلى هذا التركيب لأنّه قد علم أنّ جوابهم ذلك هو فتنتهم لأنّه أثرها ومظهرها. ويحتمل أن يراد بالفتنة جوابهم الكاذب لأنّه يفضي إلى فتنة صاحبه، أي تجريب حالة نفسه. ويحتمل أن تكون أطلقت على معناها الأصلي وهو الاختبار. والمراد به السؤال لأنّ السؤال اختبار عمّا عند المسؤول من العلم، أو من الصدق وضدّه، ويتعيّن حينئذٍ تقدير مضاف، أي لم يكن جواب فتنتهم، أي سؤالهم عن حال إشراكهم إلاّ أن قالوا: {والله ربّنا ما كنّا مشركين}. وقرأ الجمهور {لم تكن} بتاء تأنيث حرف المضارعة. وقرأه حمزة، والكسائي، ويعقوب بياء المضارعة للغائبة باعتبار أنّ {قالوا} هو اسم (كان). وقرأ الجمهور {فتنتهم} بالنصب على أنّه خبر (كان)، فتكون (كان) ناقصة واسمها {إلاّ أن قالوا} وإنّما أخّر عن الخبر لأنّه محصور. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم بالرفع على أنّه اسم (كان) و {أنْ قالوا} خبر (كان)، فتجعل (كان) تامّة. والمعنى لم توجد فتنة لهم إلاّ قولهم: {والله ربّنا ما كنّا مشركين}، أي لم تقع فتنتهم إلاّ أن نفوْا أنّهم أشركوا. ووجه اتّصال الفعل بعلامة مضارعة للمؤنّث على قراءة نصب {فتنتهم} هو أنّ فاعله مؤنَّث تقديراً، لأنّ القول المنسبك من (أن) وصلتها من جملة الفتنة على أحد التأويلين. قال أبو علي الفارسي: وذلك نظير التأنيث في اسم العدد في قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160]، لأنّ الأمثال لمّا كانت في معنى الحسنات أنّث اسم عددها. وقرأ الجمهور {ربّنا} بالجرّ على الصفة لاسم الجلالة. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بالنصب على النداء بحذف حرفه. وذكرُهم الربّ بالإضافة إلى ضميرهم مبالغة في التنصّل من الشرك، أي لا ربّ لنا غيره. وقد كذّبوا وحلفوا على الكذب جرياً على سننهم الذي كانوا عليه في الحياة، لأنّ المرء يحشر على ما عاش عليه، ولأنّ الحيرة والدهش الذي أصابهم خيّل إليهم أنّهم يموّهون على الله تعالى فيتخلّصون من العقاب. ولا مانع من صدور الكذب مع ظهور الحقيقة يومئذٍ، لأنّ الحقائق تظهر لهم وهم يحسبون أنّ غيرهم لا تظهر له، ولأنّ هذا إخبار منهم عن أمر غائب عن ذلك اليوم فإنّهم أخبروا عن أمورهم في الدنيا.
ونعرف أن الفتنة هي الاختبار. وللفتنة وسائل متعددة؛ فأنت تختبر الشيء لتعرف الرديء من الجيد، والحقيقي من المزيف، ونحن نختبر الذهب ونفتنه على النار وكذلك الفضة. وهكذا نرى أن الفتنة في ذاتها غير مذمومة، لكن المذموم والممدوح هو النتيجة التي نحصل عليها من الفتنة؛ فالامتحانات التي نضعها لأبنائنا هي فتنة، ومن ينجح في هذا الامتحان يفرح ومن يرسب يحزن. إذن فالنتيجة هي التي يفرح بها الإنسان أو التي يحزن من أجلها الإنسان، وبذلك تكون الفتنة أمرا مطلوبا فيمن له اختيار. وأحيانا تطلق الفتنة على الشيء الذي يستولي على الإنسان بباطل. إن الحق يحشر المشركين مع آلهتهم التي أشركوا بها ويسألهم عن هذه الآلهة فيقولون: {والله ربنا ما كنا مشركين}. وهم في ظاهر الأمر يدافعون عن أنفسهم، وفي باطن الأمر يعرفون الحقيقة الكاملة وهي أن الملك كله لله، ففي اليوم الآخر لا شركاء لله؛ ذلك أنه لا اختيار للإنسان في اليوم الآخر. ولكن عندما كان للإنسان اختيار في الدنيا فقد كان أمامه أن يؤمن أو يكفر. وإيمان الدنيا الناتج عن الاختيار هو الذي يقام عليه حساب اليوم الآخر، أما الإيمان الاضطرار في اليوم الآخر فلا جزاء عليه إلا جهنم لمن كفر أو شرك بالله في الدنيا. ولو أراد الله لنا جميعا إيمان الاضطرار في الدنيا لأرغمنا على طاعته مثلما فعل مع الملائكة ومع سائر خلقه...