الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ثُمَّ لَمۡ تَكُن فِتۡنَتُهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشۡرِكِينَ} (23)

قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } : قرأ حمزة والكسائي : " يكن " بالياء من تحت ، " فتنتهم " نصباً ، وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم : " تكن " بالتاء من فوق ، " فتنتُهم " رفعاً . والباقون بالتاء من فوق أيضاً ، " فتنتهم " نصباً . فأمَّا قراءة الأخوين فهي أفصحُ هذه القراءات لإِجرائها على القواعد من غير تأويل ، وستعرفه في القراءتين الأُخْرَيَيْن ، وإعرابها ظاهر . وذلك أن " فتنتهم " خبر مقدم ، و " أَنْ قالوا " بتأويل اسم مؤخر ، والتقدير : ثم لم تكن فتنتهم إلا قولُهم ، وإنما كانت أفصحَ لأنه إذا اجتمع اسمان ، أحدهما : أعرفُ ، فالأحسنُ جَعْلُه اسماً مُحَدَّثاً عنه والآخر خبراً حديثاً عنه ، و " أَنْ قالوا " يشبه المضمر ، والمضمر أعرف المعارف ، وهذه القراءة جُعِل الأعرفُ/ فيها اسماً ل " كان " وغيرُ الأعرف خبرَها ، ولم يؤنَّث الفعل لإِسناده إلى مذكر . وأما قراءة ابن كثير ومَنْ تبعه ف " فتنتُهم " اسمها ، ولذلك أُنِّثَ الفعلُ لإِسناده إلى مؤنث . و " إلا أَنْ قالوا " خبرها ، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماً والأعرفَ خبراً ، فليست في قوة الأولى .

وأمَّا قراءةُ الباقين ف " فتنتَهم " خبر مقدم ، و " إلا أن قالوا " اسمٌ مؤخَّرٌ ، وهذه القراءةُ - وإن كان فيها جَعْلُ الأعرفِ اسماً - كالقراءة الأولى ، إلا أن فيها لَحاقَ علامة تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل ولكنه بتأويل . فقيل : لأن قوله : { إِلاَّ أَن قَالُواْ } في قوة مقالتهم . وقيل : لأنه هو الفتنة في المعنى ، وإذا أخبر عن الشيء بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً فعومل معاملته ، وجعل أبو علي منه { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] لما كانت الأمثال هي الحسنات في المعنى عومل معاملةَ المؤنث فسقطت التاء من عدده . ومثلُ الآيةِ قولُه :

ألم يكُ غَدْراً ما فَعَلْتُم بسَمْعَلٍ *** وقد خاب مَنْ كانَتْ سريرتَه الغَدْرُ

ف " كانت " مسند إلى الغدر وهو مذكَّر ، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعْلَه ، ومثله قول لبيد :

فمضى وقدَّمها وكانت عادةً *** إذا هي عَرَّدَتْ إقدامُها

قال أبو علي : " فأنَّث الإِقدام لما كان العادة في المعنى " قال : " وقد جاء في الكلام : " ما جاءت حاجتَك " فأنّث ضمير " ما " حيث كانت الحاجة في المعنى ، ولذلك نصب " حاجتك " . وقال الزمشخري : " وإنما أنَّث " أن قالوا " لوقوع الخبر مؤنثاً كقولهم : من كانت أمَّك " .

وقال الشيخ : " وكلام الزمخشري مُلَفَّقٌ من كلام أبي علي ، وأمَّا " من كانت أمَّك " فإنه حَمَلَ اسمَ " كان " على معنى " مَنْ " فإن لها لفظاً مفرداً مذكراً ، ولها معنى بحسب ما تريد من إفارد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث ، وليس الحَمْلُ على المعنى لمراعاة الخبر ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر ، كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] [ وقوله ] :

. . . . . . . . . . . . . . . *** نكن مثلَ مَنْ يا ذئب يَصْطحبان

قلت : ليت شعري ولأي معنى خصَّ الزمخشريَّ بهذا الاعتراض فإنه وارد على أبي علي أيضاً ؟ إذ لقائلٍ أن يقول : التأنيث في " جاءت " للحمل على معنى " ما " فإن لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مثل " مَنْ " على أنه يقال : للتأنيث علَّتان ، فذكرا إحداهما .

ورجَّح أبو عبيد قراءَة الأخوين بقراءة أُبَيّ وبان مسعود : " وما كان فتنتُهم إلا أن قالوا " فلم يُلْحِقْ الفعلَ علامةَ تأنيث . ورجَّحها غيره بإجماعهم على نصب " حُجَّتَهم " من قوله تعالى : { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية : 25 ] . وقرئ شاذاً : { ثم لم يكنْ فتنتُهم إلا أن قالوا " بتذكير " يكنْ " ورفع " فتنتهم " ووجهُ شذوذِها سقوطُ علامةِ التأنيثِ والفاعلُ مؤنثٌ لفظاً وإن كان غيرَ حقيقي ، وجَعْلُ غير الأعرف اسماً والأعرفِ خبراً ، فهي عكس القراءة الأولى من الطرفين ، و " أن قالوا " ممَّا يجب تأخيرُه لحَصْره سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً .

قوله : { رَبِّنَا } قرأ الأخَوان : { ربَّنا } نصباً والباقون جراً . ونصبه : إمَّا على النداء وإمَّا على المدح ، قاله ابن عطية ، وإمَّا على إضمار " أعني " قاله أبو البقاء والتقدير : يا ربنا . وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملة معترضةٌ بين القسم وجوابه وهو قوله { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وخفضُه في ثلاثةِ أوجهٍ : النعتِ والبدلِ وعطفِ البيان . وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين : { واللَّهُ ربُّنا } برفعهما على المبتدأ والخبر . قال ابن عطية : " وهذا على تقديمٍ وتأخير ، كأنهم قالوا : واللَّهِ ما كنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنا " قلت : يعني أن ثَمَّ قَسَماً مضمراً .