قرأ حمزة{[13472]} والكسائي : " يَكُنْ " بالياء من تحت ، " فتنتهم " نَصْباً .
وابن كثير ، وابن عامر ، وحفص{[13473]} عن عاصم : " تَكُنْ " بالتاء من فوق ، " فِتْنَتُهُمْ " رفعاً .
والباقون بالتاء{[13474]} من فوق أيضاً ، " فِتنتَهم " نصباً .
فأمَّا قراءة الأخويْنِ فهي أفْصَحُ هذه القراءات لإجرائِهَا على القواعد من غير تأويل{[13475]} ، وَوَجْهُهَا أنَّ " فتنتهم " خبر مقدَّمٌ ، وإن قالوا بتأويل اسم مؤخر .
والتقدير : " ثم لم تكن فِتْنَتهُمْ إلاَّ قولُهم " . وإنما كانت أفصح ؛ لأنه إذا اجتمع اسْمَانِ : أحدهما أعرفُ ، فالأحْسَنُ جعله اسماً مُحَدَّثاً عنه ، والآخر خَبَراً حديثاً عنه .
و " أن قالوا " يشبه المضمر ، والمضمر أعرف المعارف ، وهذه القراءة جُعِلَ الأعرفُ فيها اسْماً ل " كان " وغير الأعرفِ خبرها ، ولم يؤنّث الفعل لإسناده إلى مذكر .
قال الواحدي{[13476]} : والاختيارُ قراءة من جعل " أن قالوا " الاسم ذوي الخبر ؛ لأنه إذا وصلت بالفعل لم تُوصَفْ ، فأشبهت بامتناع وَصْفِهَا المُضْمَرِ ، فكما أنَّ المُضْمَرَ ، والمظهر إذا اجتمعا كان جَعْلُ المضمر اسماً أوْلَى من جعله خبراً ، تقول : كنت القائم .
وأما قراءة ابن كثير ومن معه ف " فتنتهم " اسْمُهَا ، ولذلك أنِّثَ الفِعلُ لإسناده إلى مؤنّث ، و " إلاَّ أنْ قالوا " خَبَرُهَا ، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماً ، والأعرف خبراً ، فليست في قُوَّةِ الأولَى .
وأمَّا قراءةُ الباقين ف " فتنتهم " خبر مقدمٌ ، و " إلاَّ أن قالوا " اسم مؤخَّرٌ ، وهذه القراءةُ وإن كان فيها جَعْلُ الأعْرَفِ اسْماً - كالقراءة الأولى ، إلا أنَّ فيها لِحَاقُ علامَةِ تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل ، ولكنه بتأويل .
فقيل : لأنه قوله : " إلاَّ أنْ قالوا " في قوة مقالتهم{[13477]} .
وقيل : لأنه هو الفِتْنَةُ في المعنى ، وإذا أخبر عن الشَّيءِ بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً ، فعومل مُعامَلَتهُ .
وجعل أبو علي منه { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام :160 ] لمَّا كانت الأمْثَالُ هي الحَسَنَاتُ في المعنى عُومِلَ مُعَامَلَة المُؤنَّثِ ، فسقطت " التاء " من عَدَدِهِ ، ومثلُ الآية قوله : [ الطويل ]
ألَمْ يَكُ غَدْراً مَا فَعَلْتُمْ بسَمْعَلٍ *** وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتَهُ الغَدْرُ{[13478]}
ف " كانت " مُسْند إلى " الغَدْرِ " وهو مذكَّر ، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعلَه .
فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً *** مِنْهُ إذَا هِيَ عَرَّدَتْ إقْدَامُهَا{[13479]}
قال أبو عَلِيّ : فأنَّث الإقدام لما كان كالعادة في المعنى قال : وقد جاء في الكلام : " ما جاءَتْ حَاجَتُكَ " فأنّث ضمير " ما " حيث كانت كالحاجة في المَعْنَى ، ولذلك نصب " حاجتك " .
وقال الزمخشري{[13480]} : " وإنما أنَّث " [ أن ] قالوا " لوُقُوعِ الخبر مؤنّثاً كقولهم : من كانت أمَّك " .
قال أبو حيَّان{[13481]} : وكلام الزَّمخشري ملفقٌ من كلام أبي عَلِيّ ، وأمَّا " من كانت أمك " فإنه حَمَلَ اسمَ " كان " على معنى " مَنْ " ، فإنَّ لها لَفْظاً مُفرداً مذكّراً ، ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتَثنيةٍ وجَمْعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ ، وليس الحَمْلُ على المعنى لِمْراعَاةِ الخَبَرِ ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر ، كقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس :42 ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تكُنْ مَثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ{[13482]}
قال شهاب الدين{[13483]} - رحمه الله تعالى - : ليت شِعْري ، ولأي معنى خصَّ الزمخشري بهذا الاعتراضِ ، فإنه وَارِدٌ على أبي عَلِيٍّ أيضاً ؟ إذ لقائل أن يقول : التأنيثُ في " جَاءَتْ " للحمل على معنى " ما " وإنْ لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مِثْل " مَنْ " ، على أنه يقال : للتأنيث عِلَّتانِ ، فذكر [ إحداهما ، ورجَّح ]{[13484]} أبو عُبيدة قراءة الأخويْنِ بقراءة أبَيّ ، وابن مسعود{[13485]} : " وما كان فتنتهم إلاَّ أن قالوا " فلم يُلْحِق الفعل علامة تأنيثٍ ، ورجَّحها غيره بإجماعهم على نَصْبِ " حُجَّتهم " من قوله تبارك وتعالى : { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية :25 ] .
وقرئ شاذاً " ثم لم يكن فتنتهم إلا أنه قالوا " بتذكير " يكنْ " ، ورفع " فتنتهم " .
ووجه شُذُوذِهَا سقوط علامةِ التأنيث ، والفاعل مؤنّث لَفْظاً ، وإن كان غير حَقيقيٍّ ، وجَعْلُ غير الأعْرَفِ اسماً ، والأعرف خبراً ، فهي عَكْسُ القراءة الأولى ، من الطَّرَفَيْنِ ، و " أن قالوا " مما يجب تأخيره لِحَصْرِهِ سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً .
معنى قوله : " فتنتهم " ، أي : قولهم وجوابهم .
وقال ابن عبَّاسٍ ، وقتادة{[13486]} : معذرتهم ، والفِتْنَةُ التّجْرِبةُ ، فلمَّا كان سؤالهم تَجْرِبَةً لإظهار ما في قلوبهم قيل : فَتْنَة .
قال الزَّجَّاج{[13487]} - رحمه الله - " لم تَكُنْ فتنتهم " معنى لَطِيفٌ ، وذلك لأنَّ الله -تبارك وتعالى- بيَّن أنَّ المشركين مَفْتُونُونَ بِشِرْكِهِمْ متهالكين على حبّه ، فأعلم في هذه الآية الكريمة أنه لم يَكُنْ افتتانهم بشركهم ، وإقامتهم عليه إلاَّ أن تَبَرَّأوا عنه وتباعَدُوا ، فَحَلفُوا أنهم ما كانوا مشركين ، ومثاله أن ترى إنساناً ما يُحِبُّ طريقةً مذمومة ، فإذا وقع في فِتْنَةٍ بسببه تَبَرَّأ منه ، فيقال له : " ما كانت محبتك لفلان إلاَّ أن فَرَرْتَ منه " ، فالمُرَادُ بالفتنة هنا افْتِتَانُهُمْ بالأوْثَانِ ، ويتأكد بما روى عَطَاءٌ عن ابن عباس أنه قال : " لم تكن فتنتهم " معناه : شركهم في الدنيا ، وهذا القولُ راجعٌ إلى حذف المضاف ؛ لأن المعنى ثُمَّ لم تكن عَاقِبَةُ أمرهم فتنتهم إلاَّ البَرَاءة .
قوله : " واللَّهِ رَبِّنَا " قرأ{[13488]} الأخوان : " ربَّنا " نَصْباً ، والباقون{[13489]} جراً .
ونصبه : إمَّا على النِّداء ، وإمَّا على المَدْحِ ، قاله ابن عطيَّة{[13490]} - رحمه الله - وإمَّا على إضْمَار " أعني " ، قاله أبو البقاء{[13491]} ، والتقدير : يا ربنا .
وعلى كُلِّ تقدير فالجملة مُعْتَرضَةٌ بين القسم وجوابه ، وهو قوله { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وخفضه من ثلاثة أوجه : النعت ، والبدل ، وعطف البَيان .
وقرأ عكرمة ، وسلام{[13492]} بن مسكين : " واللَّهُ رَبُّنا " برفعهما على المبتدأ والخبر .
قال ابن عطية{[13493]} : " وهذا على تَقدِيمٍ وتأخيرٍ ، كأنهم قالوا : واللَّهِ ما كُنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنَا " يعني : أن ثَمَّ قَسَماً مُضْمَراً .
ظاهرُ الآية الكريمة يقتضي أنهم حَلَفُوا في القيامة أنهم ما كانوا مشركين ، وهذا يقتضي إقْدَامَهُمْ على الكذب يوم القيامة ، وللناس فيه قولان{[13494]} :
الأول : وهو قول أبي على الجبائي والقاضي - : أنه أهل القيامة لا يجُوز إقدامهم على الكذب واحتج عليه بوجوه :
الأول : أن أهل القيامة يعرفون الله بالاضطرار وأنهم لو عرفوه بالاستدلال لصار موقف القيامة دَاَرَ تكْليفٍ ، وذلك باطلٌ ، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار وجب أنْ يكونوا مُلْجئين إلى ألاَّ يفعلوا القبيح ، وذلك يقتضي ألاَّ يقدم أحَدٌ من أهل القيامة على الكذبِ ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يُقالَ : إنهم أقدموا على فعل القَبيح ؛ لأنهم لمَّا عَايَنُوا أهْوَال يوم القيامة اضطربت عُقُولُهُمْ ، فقالوا هذا الكذب عند اخْتِلاَلِ عقولهم ، أو يقال : إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا ؟
فالجواب عن الأوَّل : أنه لا يجوز أن يحشرهم ويوبخهم بقوله :
{ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُون } ؟ ثم يحكي اعتذارهم مع أنهم غير عُقلاء ، هذا لا يليقُ بحكمة اللَّه تعالى .
وأيضاً فلا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم فيما يعاملهم اللَّهُ به غير مظلومين . والجوابُ على الثاني : أنَّ نِسْيَانَهُمْ لما كانوا عليه طُول عمرهم في دار الدنيا مع كمال العقل [ بعيدٌ ]{[13495]} ، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور .
الوجه الثاني : أنَّ هؤلاء الذين أقْدَمُوا على الكذب إمَّا أن يُقال : إنهم عُقَلاءُ أو غير عقلاء ، فالثاني باطلٌ ، لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي كلام المجَانين في معرض تمهيد العُذْرِ وإن كانوا عقلاء يعلمون أنَّ اللَّهَ عالمٌ أحْوَالَهُمْ مُطَّلِعٌ على أفعالهم ، ويعلمون أنَّ تجويز الكذب على اللَّهَ -تعالى- مُحَالٌ ، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلاَّ زيادة المَقْتِ والغَضَبِ ، وإذا كان كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب{[13496]} .
الوجه الثالث : أنهم لو كذبوا في مَوْقِفِ القيامة ، ثُمَّ حَلَفُوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقْدَمُوا على نوعين من القَبيحِ ، فإن قلنا : إنهم يستحقُّون بذلك العقابَ ، صارت الدار الآخرة دَارَ تكليف ، وأجمعوا على أنَّ الأمْرَ ليس كذلك .
وإن قلنا : إنَّهم لا يستحقُّون على ذلك الكذب ، ولا على ذلك الحلف الكاذب عِقَاباً ، فهذا يقتضي حُصُول الإذن من اللَّهِ -تعالى- في ارتكاب القَبَائِِحِ ، وذلك باطلٌ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدَامُ أهل القيامة على القبيح والكذبِ ، وإذا ثبت هذا فَيُحْمَلُ قولهم : " واللَّهِ ربِّنَا ما كنا مشركين " في اعتقادنا وظُنُوننا ؛ لأن القوم يعتقدون{[13497]} ذلك .
فإن قيل : فعلى هذا التقدير يكونون صادقين في قولهم ، فلماذا قال تبارك وتعالى { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ } ؟ فالجواب أنه ليس يجب من قوله : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ } أنهم كذبوا فيها تقدَّم ذِكْرُهُ من قولهم : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين } ، بل يجوز أن يكون المراد { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } في دار الدُّنْيَا في أمور يخبرون عنها بأنَّ ما هم عليه لَيْسَ بشرْكٍ ، وأنهم على صواب ونحوه ، فالمقصود من قوله تعالى : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } اخْتِلافُ الحالتين ، وأنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون ، وأنهم في الآخرة يتحرَّزُون عن الكذب ، ولكن حيث لا ينفعهم الصِّدْقُ ، فلتعلّق أحد الأمرين بالآخر ، أظهر الله -تعالى- للرسول ذلك{[13498]} .
القول الثاني : قول جمهور المفسرين- : أن الكفار يكذبون في القيامة واسْتَدلُّوا بوجوه :
أحدهما : ما حكى اللَّهُ -تعالى- عنهم أنهم يقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُون } [ المؤمنون :107 ] مع أنه -تعالى- أخبر عنهم بقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ }
وثانيها : قوله تبارك وتعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُون }
[ المجادلة :18 ] بعد قوله تعالى : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ } فَشَبَّهَ كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا .
وثالثها : ما حَكَاهُ -تعالى- عنهم : { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ الكهف :19 ] .
والجوابُ عما قاله الجُبَّائي بأن يُحْمَلَ قولهم ما كانوا مشركين في ظُنُونهم ، هذا مُخَالفٌ للظَّاهرِ ، ثّمَّ قوله بعد ذلك : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ } بأنه مَحْمُولٌ على كذبهم في الدنيا يوجبُ تفكيك نَظْمِ الآية ، وصَرْفََ أول الآية إلى أحوال القيامة ، وصَرْفَ آخرها إلى أحوال الدنيا ، وهو في غاية البُعْدِ{[13499]} .
وقولهم : كذبوا في حال كَمَالِ العَقْلِ ، وحال نُقْصَانِهِ ، فنقول : لا يبعد أنهم حَالَ ما عَايَنُوا أهوال القيامة ، وشاهدوا مُوجِبَاتِ الخوف الشديد أخْتَلَّتْ عقولهم ، فذكروا هذا الكلام .
قولهم : كيف يَلِيقُ بحكمة اللَّهِ -تعالى- أن يحكي عنهم ما ذكروه في حال اضْطِرَابِ العقول ؟
فالجوابُ : هذا يوجب الخوف الشديد وذلك في دار الدنيا وأمَّا قولهم : إنَّ المكلفين لا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقول : اخْتلالُ عقولهم سَاعةً واحدة حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمالِ عقولهم في سِائرِ الأوقات{[13500]} .