قوله تعالى : { ألم يأتكم نبأ الذين } ، خبر الذين ، { من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } ، يعني : من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود . وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثم قال : كذب النسابون . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : بين إبراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله تعالى . وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أبا إلى آدم ، وكذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم أولئك الآباء أحد إلى الله عز وجل . { جاءتهم رسلهم بالبينات } بالدلالات الواضحات ، { فردوا أيديهم في أفواههم } ، قال ابن مسعود : عضوا على أيديهم غيظا كما قال { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [ آل عمران-119 ] . قال ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم . قال مجاهد وقتادة : كذبوا الرسل وردوا ما جاؤوا به ، يقال : رددت قول فلان في فيه أي كذبته . وقال الكلبي : يعني أن الأمم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم ، أي : وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أن اسكتوا . وقال مقاتل : فردوا أيديهم على أفواه الرسل يسكتونهم بذلك . وقيل : الأيدي بمعنى النعم . معناه : ردوا ما لو قبلوا كانت أيادي ونعما في أفواههم ، أي : بأفواههم ، يعني بألسنتهم . { وقالوا } يعني الأمم للرسل ، { إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } ، موجب لريبة موقع للتهمة .
وقوله : { ألم يأتكم } الآية ، هذا من التذكير بأيام الله في النقم من الأمم الكافرة . وقوله : { لا يعلمهم إلا الله } من نحو قوله : { وقروناً بين ذلك كثيراً }{[7012]} [ الفرقان : 38 ] ، وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كذب النسابون من فوق عدنان »{[7013]} ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله » .
وحكى عنه المهدوي أنه قال : «كان بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الوقوف على عدتهم بعيد ، ونفي العلم بها جملة أصح ، وهو ظاهر القرآن .
واختلف المفسرون في معنى قوله : { فردوا أيديهم في أفواههم } بحسب احتمال اللفظ .
قال القاضي أبو محمد : و «الأيدي » في هذه الآية قد تتأول بمعنى الجوارح ، وقد تتأول بمعنى أيدي النعم ، فمما ذكر على أن «الأيدي » الجوارح أن يكون المعنى : ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم عضاً عليها من الغيظ على الرسل ، ومبالغة في التكذيب - هذا قول ابن مسعود وابن زيد ، وقال ابن عباس : عجبوا وفعلوا ذلك ، والعض من الغيظ مشهور{[7014]} من البشر ، وفي كتاب الله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ }{[7015]} [ آل عمران : 119 ] وقال الشاعر :
قد أفنى أنامله أزمه . . . فأضحى يعضُّ عليَّ الوظيفا{[7016]}
لو أن سملى أبصرت تخددي . . . ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عوَّدي . . . عضت من الوجد بأطراف اليد{[7017]}
ومما ذكر أن يكون المعنى أنهم ردوا أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت ، واستبشاعاً لما قالوا من دعوى النبوءة ومما ذكر أن يكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل تسكيتاً لهم ودفعاً في صدر قولهم - قاله الحسن - وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم .
قال القاضي أبو محمد : وتحتمل الألفاظ معنى رابعاً وهو أن يتجوز في لفظ «الأيدي » ، أي إنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوه بأفواههم من التكذيب ، فكأن المعنى : ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي في أقوالهم ، وعبر عن جميع المدافعة ب «الأيدي » ، إذ الأيدي موضع لشد المدافعة والمرادة .
وحكى المهدوي قولاً ضعيفاً وهو أن المعنى : أخذوا أيدي الرسل فجعلوها في أفواه الرسل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي لا وجه له .
ومما ذكر على أن «الأيدي » أيدي النعم ما ذكره الزجاج وذلك أنهم ردوا آلاء الرسل في الإنذار والتبليغ بأفواههم ، أي بأقوالهم - فوصل الفعل ب { في } عوض وصوله بالباء{[7018]} - وروي نحوه عن مجاهد وقتادة .
قال القاضي أبو محمد : والمشهور : جمع يد النعمة : أياد ، ولا يجمع على أيد ، إلا أن جمعه على أبد ، لا يكسر باباً ولا ينقض أصلاً ، وبحسبنا أن الزجاج قدره وتأول عليه .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل اللفظ - على هذا - معنى ثانياً ، أن يكون المقصد : ردوا أنعام الرسل في أفواه الرسل ، أي لم يقبلوه ، كما تقول لمن لا يعجبك قوله : أمسك يا فلان كلامك في فمك . ومن حيث كانت أيدي الرسل أقوالاً ساغ هذا فيها ، كما تقول : كسرت كلام فلان في فمه ، أي رددته عليه وقطعته بقلة القبول والرد ، وحكى المهدوي عن مجاهد أنه قال : معناه : ردوا نعم الرسل في أفواه أنفسهم بالتكذيب والنجه{[7019]} .
وقوله : { لفي شك مما تدعوننا إليه مريب } يقتضي أنهم شكوا في صدق نبوتهم وأقوالهم أو كذبها ، وتوقفوا في إمضاء أحد المعتقدين ، ثم ارتابوا بالمعتقد الواحد في صدق نبوتهم فجاءهم شك مؤكد بارتياب .
وقرأ طلحة بن مصرف : «مما تدعونّا » بنون واحدة مشددة{[7020]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.