اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ} (9)

ثم قال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } الآية النَّبأ : الخبر ، والجمع الأنباء ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]

ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19143]}

قال أبو مسلم : " يحتمل أن يكون خطاباً من موسى -صلوات الله وسلامه عليه- [ لقومه ، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم ، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعال على لسان موسى -عليه السلام- ]{[19144]} لقومه : يذكرهم أمر القرون الأولى ؛ ليعتبروا بأحوال المتقدمين " .

روي عن عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قرأ هذه الآية ثمَّ قال : " كَذبَ النَّسَّابُونَ " {[19145]} .

وعن عبد الله بن عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال : بين إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وبين عدنان ثلاثون [ أباً ]{[19146]} لا يعلمهم إلا{[19147]} الله وكان مالك ابن أنس -رضي الله عنه- يكره أن ينسب الإنسان [ نفسه أباً أباً ]{[19148]} إلى آدم -صلوات الله وسلامه عليه- وكذلك في حق النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ؛ لأنه لا يعلم أولئك الآباء أحد إلا الله تعالى ، ونظيره : قوله تعالى : { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] وقوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] وكان -صلوات الله وسلامه عليه- في نسبه لا يجاوز معد بن عدنان .

وقال -عليه الصلاة والسلام- : " تَعلَّمُوا من أنْسَابِكُم ما تصلُونَ بِه أرحَامَكُمْ وتعلمُوا مِنَ النُّجُوم ما تَسْتدِلُّونَ بِهِ على الطَّريقِ " {[19149]} .

وقيل : المراد بقولهم : " لا يَعْلمُهمْ " أي : عددهم ، وأعمارهم ، وكيفياتهم .

وقال عروة بن الزبير : " ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان ، وإسماعيل " {[19150]} .

قوله : " قَوم نُوحٍ " بدل ، أو عطف .

قوله : { والذين مِن بَعْدِهِمْ } " يجوز أن يكون عطفاً من الموصول الأول ، أو على المبدل منه ، وأن يكون مبتدأ خبره : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } ، { وجَاءَتْهُمْ } خبر آخر وعلى ما تقدم يكون : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } حالاً من " الَّذينَ " أو من الضمير في : " مِنْ بعْدِهمْ " لوقوعه صلة " .

وهذا عَنَى أبو البقاءِ{[19151]} بقوله : حال من الضمير في : " مِنْ بَعْدهِمْ " ولا يريد به الضمير المجرور ؛ لأنَّ مذهبه منع الحال من المضاف ، وإن كان بعضهم جوزه في صوره وجوز أيضاً هو والزمخشري أن يكون استئنافا .

وقال الزمخشري{[19152]} : " والجملة من قوله : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراض " .

ورد عليه أبو حيان{[19153]} : بأن الاعتراض إنما يكون بين جزئين ، أحدهما يطلب الآخر .

ولذلك لما أعرب الزمخشريُّ : " والَّذينَ " مبتدأ ، و " لا يَعْلمُهُمْ " خبره ، قال : " والجملة من المبتدأ ، والخبر اعتراض " ، واعترضه أبو حيَّان أيضاً بما تقدَّم .

ويمكنُ أن يجاب عنه في الموضعين : بأن الزمخشري يمكن أن يعتقد أن : " جَاءَتْهُم " حال مما تقدَّم ، فيكون الاعتراض واقعاً بين الحال وصاحبها ، وهو كلامٌ صحيحٌ .

قوله تعالى : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } يجوز أن تكون الضمائر للكفار ، أي : فردّ الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ ، لقوله : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] قاله أبو عباس ، وابن مسعود{[19154]} ، والقاضي .

قال القرطبيُّ : وهذا أصح الأقوال ، قال الشاعر : [ الرجز ]

لَوْ أنَّ سَلْمَى أبْصرَتْ تَخَدُّدِي *** ودِقَّةً في عَظْمِ سَاقِي ويَدِي

وبُعْدَ أهْلِي وجَفَاءَ عُوَّدِي *** عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بأطْرافِ اليَدِ{[19155]}

وقد مضى هذا المعنى في آل عمران [ 119 ] ف " في " على بابها من الظرفية ، أي : فردُّوا أيديهم على أفواههم ضحكاً ، واستهزاء ، ف " فِي " بمعنى " عَلَى " وأشاروا إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم : إنَّا كَفرنا ، ف " عَنْ " بمعنى " إلى " ويجوز أن يكون المرفوع للكفار ، والأحزان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن يراد بالأيدي : النّعم ، أي : ردوا نعم الرسل وهي مصالحهم في أفواه الرسل ؛ لأنهم إذا كذبوها كأنهم رجعوا بها من حيث جاءت على سبيل المثال ، ويجوز أن يراد المعنى ، والمراد بالأيدي : الجوارح ، ويجوز أن يكون الأولان للكفَّار ، والأخير للرسل ، فرد الكفار أيديهم في أفواههم أي في أفواه الرسل ، أي أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسُّكوت ، أو وضعوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ .

وقيل : " في " هنا بمعنى الباء . قال الفراء : " قد وجدنا من العرب من يجعل " في " موضع الباء ، يقال : أدخلتُ بالجنَّة ، أدخلت في الجنَّة " وأنشد : [ الطويل ]

وأرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ ورَهْطهِ *** ولكنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لسْتُ أرْغَبُ{[19156]}

أي : أرغب بها .

وقال أبو عبيد -رحمه الله- : هذا ضرب مثل يقوله العربُ : رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمره به .

ورد عليه : بأن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ .

وقال أبو مسلم : المراد باليدِ : ما نطقت به الرُّسل من الحجج ؛ لأنَّ إسماع الحجَّة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يداً ، يقال لفلان عندي يد ، إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] فالبينات التي ذكرها الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وقرَّروها لهم نعم وأياد ، وأيضاً : العهود التي أتوا بها مع القوم أيادي . وجمع اليد في القلة : أيْدِي ، وفي الكثرة أيَادي .

وإذا ثبت أنَّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح ، والعهود إنَّما تظهر من الفمِ ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًّا في الأفواه .

ونقل محمد بن جرير عن بعضهم : أنَّ معنى قوله تعالى : { فردّوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } أي : سكتوا عن الجواب ، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب : ردَّ يدهُ في فيه ، إذ لم يجبه ، ثمَّ زيف هذا الوجه وقال : إنَّهم أجابوا بالتَّكذيب وقالوا : إنَّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا : " إنَّا كَفرْنَا بِمَا أرْسِلْتُم بِه " .

قوله تعالى : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } قرأ طلحة{[19157]} : " تَدعُونَّا " بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية ، والمعنى : في شكِّ مريب موقع في الريبة أي : ذي ريبة من أرابه ، والريبة : لقلق النفس ، وألاّ [ تطمئن ]{[19158]} إلى الأمر .

فإن قيل : لما ذكروا أنهم قالوا : إنَّا كافرون برسالتكم ، وإن لم ندع هذا الجزم واليقين ، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى هذا التقدير فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم .


[19143]:تقدم.
[19144]:سقط من ب.
[19145]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/421) وذكره السيوطي في "الدرالمنثور" (4/134) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وذكره الماوردي في "تفسيره" (3/124) والبغوي (3/27).
[19146]:في أ: قرنا.
[19147]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (3/124) والبغوي في "تفسيره" (3/27). وقد ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/135) وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر.
[19148]:في ب: أباه.
[19149]:أخرجه أحمد (2/374) والترمذي (4/351) كتاب البر والصلة: باب ما جاء في تعليم النسب حيث (1979) والبغوي في "شرح السنة" (6/435). -الشطر الأول منه- من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
[19150]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/135) وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[19151]:ينظر: الإملاء 2/66.
[19152]:نظر: الكشاف 2/542.
[19153]:ينظر: البحر المحيط 5/397.
[19154]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/422، 423) عن ابن مسعود وابن عباس وأخرجه الحاكم (2/350 – 351) عن عبد الله بن مسعود. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/135) عن ابن مسعود وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وأبي عبيد وابن أبي حاتم والطبراني. وذكره الماوردي في "تفسيره" (3/124) والبغوي (3/27).
[19155]:ينظر: القرطبي 5/381، الكامل 1/118، فتح التقدير 3/97.
[19156]:ينظر: اللسان (ذرأ)، التهذيب (ذرأ)، البحر المحيط 5/398، الطبري 16/353، روح المعاني 13/193، معاني الفراء 2/70، الدر المصون 4/253.
[19157]:ينظر: المحرر الوجيز 3/327، والبحر المحيط 5/398، والدر المصون 4/254.
[19158]:في ب: تظهر.