السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ} (9)

وقوله تعالى : { ألم يأتكم } يا بني إسرائيل { نبأ } ، أي : خبر { الذين من قبلكم قوم نوح } وكانوا ملء الأرض { و } نبأ { عاد } قوم هود وكانوا أشد الناس أبداناً { و } نبأ { ثمود } قوم صالح وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور يحتمل أن يكون من كلام موسى ، أو كلام مبتدأ من الله تعالى لقوم محمد صلى الله عليه وسلم وهو استفهام تقرير وقوله تعالى : { والذين من بعدهم } ، أي : بعد هؤلاء الأمم الثلاثة { لا يعلمهم إلا الله } فيه قولان ؛ الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله تعالى ؛ لأن المذكور في القرآن جملة ، فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل ، والقول الثاني : إنّ المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ولا يعلمهم إلا الله ، ولذلك كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب إلى آدم عليه السلام ، وقد نفى الله علمها عن العباد . وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { وقروناً بين ذلك كثيراً 38 وكلاً ضربنا له الأمثال وكلاً تبرنا تتبيراً } [ الفرقان : 38 ، 39 ] وقوله تعالى : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر ، 78 ] . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في انتسابه لا يجاوز معدّ بن عدنان بن أدر وقال : «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق » . قال الرازي : والقول الثاني أقرب . ولما { جاءتهم } ، أي : هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم { رسلهم بالبينات } ، أي : الدلائل الواضحات والمعجزات الباهرات أتوا بأمور أوّلها ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى :{ فردّوا } ، أي : الأمم { أيديهم في أفواههم } وفي ذلك احتمالات : الأول : أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [ آل عمران ، 119 ] .

والثاني : أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية ، فعند ذلك ردّوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبه الضحك ، فيضع يده على فيه .

والثالث : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام ، واسكتوا عن ذكر هذا الحديث .

والرابع : أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم الكفر كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى : { وقالوا إنَّا كفرنا بما أرسلتم به } أي : على زعمكم أي : أن هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق هذا هو الأمر الثاني الذي أتوا به ، وقيل : الضمير في ردوا راجع للرسل عليهم السلام ، وفيه وجهان :

أحدهما أنّ الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوا وليقطعوا الكلام .

والثاني : أنّ الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم ، على أفواه أنفسهم فإنّ من ذكر كلاماً عند قوم وأنكروه وخافهم ، فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه ، وغرضه أن يعرّفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكلام البتة ، والأمر الثالث : قولهم : { وإنا لفي شك مما } ، أي : شيء { تدعوننا } أيها الرسل { إليه } ، أي : من الدين { مريب } ، أي : موجب الريبة ، أي : موقع في الريبة والشبهة والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي يشك فيه . فإن قيل : إنهم قالوا أولاً : إنّا كفرنا بما أرسلتم به ، فكيف يقولون ثانياً { وإنا لفي شك } والشك دون الكفر ؟ أجيب : بأنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل كلهم حصل لهم شبه توجب الشك لهم فقالوا : إن لم ندع الجزم واليقين في كفرنا فلا أقلّ من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم ، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم .