فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ} (9)

{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } يحتمل أن يكون هذا خطاباً من موسى لقومه ، فيكون داخلاً تحت التذكير بأيام الله ، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه ابتداء خطاباً لقوم موسى ، وتذكيراً لهم بالقرون الأولى وأخبارهم ، ومجيء رسل الله إليهم ، ويحتمل أنه ابتداء خطاب من الله سبحانه لقوم محمد صلى الله عليه وسلم تحذيراً لهم عن مخالفته ، النبأ : الخبر ، والجمع الأنباء ، ومنه قول الشاعر :

ألم يأتيك والأنباء تنمي *** بما لاقت لبون بني زياد

و{ قَوْمُ نُوحٍ } بدل من الموصول ، أو عطف بيان { وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ } أي : من بعد هؤلاء المذكورين { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } أي : لا يحصي عددهم ويحيط بهم علماً إلاّ الله سبحانه ، والموصول مبتدأ وخبره لا يعلمهم إلاّ الله ، والجملة معترضة ، أو يكون الموصول معطوفاً على ما قبله ، ولا يعلمهم إلاّ الله اعتراض ، وعدم العلم من غير الله إما أن يكون راجعاً إلى صفاتهم وأحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم ، أي : هذه الأمور لا يعلمها إلاّ الله ، ولا يعلمها غيره ، أو يكون راجعاً إلى ذواتهم ، أي : لا يعلم ذوات أولئك الذين من بعدهم إلاّ الله سبحانه . وجملة { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } مستأنفة لبيان النبأ المذكور في { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } أي : جاءتهم الرسل بالمعجزات الظاهرة وبالشرائع الواضحة { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } أي جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل كما في قوله تعالى : { عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] ، لأن الرسل جاءتهم بتسفيه أحلامهم ، وشتم أصنامهم . وقيل : إن المعنى أنهم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم لما جاءتهم الرسل بالبينات ، أي : اسكتوا واتركوا هذا الذي جئتم به تكذيباً لهم وردّا لقولهم . وقيل : المعنى أنهم أشاروا إلى أنفسهم وما يصدر عنها من المقالة ، وهي قولهم : { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي : لا جواب لكم سوى هذا الذي قلناه لكم بألسنتنا هذه . وقيل : وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجباً كما يفعله من غلبه الضحك من وضع يده على فيه . وقيل : المعنى ردّوا على الرسل قولهم ، وكذبوهم بأفواههم ، فالضمير الأوّل للرسل والثاني للكفار . وقيل : جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردّاً لقولهم ، فالضمير الأول على هذا للكفار ، والثاني للرسل . وقيل : معناه أومأوا إلى الرسل أن اسكتوا . وقيل : أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم . وقيل : إن الأيدي هنا النعم ، أي : ردّوا نعم الرسل بأفواههم ، أي : بالنطق والتكذيب ، والمراد بالنعم هنا ما جاءهم به من الشرائع ، وقال أبو عبيدة : ونعم ما قال : هو ضرب مثل ، أي : لم يؤمنوا ولم يجيبوا ، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت : قد ردّ يده في فيه . وهكذا قال الأخفش ، واعترض ذلك القتيبي فقال : لم يسمع أحد من العرب يقول ردّ يده في فيه : إذا ترك ما أمر به ، وإنما المعنى عضوا على الأيدي حنقاً وغيظاً ، كقول الشاعر :

يردّن في فيه غيظ الحسود *** حتى يعض عليّ الأكفا

وهذا هو القول الذي قدّمناه على جميع هذه الأقوال ، ومنه قول الشاعر :

لو أن سلمى أبصرت تخددي *** عضت من الوجد بأطراف اليد

وهو أقرب التفاسير للآية إن لم يصح عن العرب ما ذكره أبو عبيدة والأخفش ، فإن صح ما ذكراه فتفسير الآية به أقرب { وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي قال الكفار للرسل : إنا كفرنا بما أرسلتم به من البينات على زعمكم { وَإِنَّا لَفِي شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } أي : في شك عظيم مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما سواه { مُرِيبٍ } أي : موجب للريب . يقال : أربته إذا فعلت أمراً أوجب ريبة وشكاً . والريب قلق النفس وعدم سكونها . وقد قيل : كيف صرحوا بالكفر ثم أمرهم على الشك ؟ وأجيب بأنهم أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوّتكم . ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم .

/خ12