إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ} (9)

ثم شرَع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } ليتدبروا ما أصاب كلَّ واحد من حزبي المؤمن والكافر فيُقلعوا عما هم عليه من الشر ويُنيبوا إلى الله تعالى ، وقيل : هو ابتداءُ كلامٍ من الله تعالى خطاباً للكفرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيختصّ تذكيرُ موسى عليه الصلاة والسلام بما اختص ببني إسرائيلَ من السراء والضراء ، والأيامُ بالأيام الجاريةِ عليهم فقط ، وفيه ما لا يخفى من البعد ، وأيضاً لا يظهر حينئذ وجهُ تخصيصِ تذكيرِ الكفار الذين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بما أصاب أولئك المعدودين مع أن غيرهم أسوةٌ لهم في الخلوّ قبل هؤلاء { قَوْمُ نُوحٍ } بدل من الموصول أو عطفُ بيان { وَعَادٌ } معطوفٌ على قوم نوح { وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ } أي من بعد هؤلاء المذكورين عطفٌ عامٌ على قوم نوح وما عطف عليه وقوله تعالى : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراضٌ أو الموصولُ مبتدأٌ ولا يعلمهم إلى آخره خبرُه ، والجملةُ اعتراضٌ ، والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددَهم إلا الله سبحانه . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عدنانَ وإسماعيلَ ثلاثون أباً لا يُعرفون . وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا قرأ هذه الآية قال : كذَب النسّابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمَها عن العباد { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم } استئنافٌ لبيان نَبئِهم { بالبينات } بالمعجزات الظاهرةِ والبيناتِ الباهرة فبيّن كلُّ رسول لأمته طريقَ الحق وهداهم إليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } مشيرين بذلك إلى ألسنتهم وما يصدُر عنها من المقالة اعتناءً منهم بشأنها وتنبيهاً للرسل على تلقّيها والمحافظةِ عليها وإقناطاً لهم عن التصديق والإيمان بإعلام أن لا جوابَ سواه .

{ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي على زعمكم وهي البيناتُ التي أظهروها حجةً على صحة رسالاتِهم كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا } [ هود ، الآية 96 ] ، ومرادُهم بالكفر بها الكفرُ بدِلالتها على صحة رسالاتِهم ، أو فعضّوها غيظاً وضجراً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران ، الآية 119 ] أو وضعوها عليها تعجباً منه واستهزاءً به كمن غلبه الضِّحْكُ أو إسكاتاً للأنبياء عليهم السلام وأمراً لهم بإطباق الأفواه ، أو رَدّوها في أفواه الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام يمنعونهم من التكلم تحقيقاً أو تمثيلاً ، أو جعلوا أيديَ الأنبياء في أفواههم تعجباً من عُتوّهم وعِنادهم كما ينبىء عنه تعجّبهم بقولهم : { أفي الله شَكٌّ } وقيل : الأيدي بمعنى الأيادي عبر بها عن مواعظهم ونصائِحهم وشرائِعهم التي هي مدارُ النعم الدينية والدنيوية لأنهم لما كذّبوها فلم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه { وَإِنَّا لفي شَكّ } عظيم { مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } من الإيمان بالله والتوحيد فلا ينافي شكُّهم في ذلك كفرَهم القطعيَّ بما أرسل به الرسل من البينات فإنهم كفروا بها قطعاً حيث لم يعتدوا بها ولم يجعلوها من جنس المعجزات ولذلك قالوا : فأتونا بسلطان مبين ، وقرئ تدعون بالإدغام { مُرِيبٍ } مُوقعٍ في الريبة من أرابه ، أو ذي ريبة من أراب الرجلُ وهي قلقُ النفس وعدم اطمئنانها بالشيء .