الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَبَؤُاْ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَرَدُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فِيٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَقَالُوٓاْ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَنَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ} (9)

قوله تعالى : { قَوْمِ نُوحٍ } : بدلٌ أو عطفُ [ بيانٍ ] .

قوله : { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } يجوز أن يكونَ عطفاً على الموصولِ الأولِ ، او على المبدل منه ، وأن يكونَ مبتدأً ، خبرُه { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ } ، و " جاءَتْهُم " خبر آخر . وعلى ما تقدَّم يكون " لا يعلمهم " حالاً من " الذين " ، أو من الضمير في { مِن بَعْدِهِمْ } لوقوعِه صلةً ، وهذا عنى أبو البقاء بقوله : " حال من الضمير في { مِن بَعْدِهِمْ } ، ولا يُريد به الضميرَ المجرورَ ، لأنَّ مذهبَه مَنْعُ الحالِ من المضاف إليه ، وإن كان بعضُهم جَوَّزه في صورٍ . وجَوَّز أيضاً هو الزمخشري أن تكونَ استئنافاً .

وقال الزمخشري : " والجملةُ مِنْ قولِه { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ } اعتراضٌ . ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاعتراضَ إنما يكون بين جُزْأَيْن أحدهما يطلب الآخر ، ولذلك لمَّا أَعْرَبَ الزمخشريُّ " والذين " مبتدأً و " لا يَعْلمهم " خبره ، قال : " والجملةُ مِنَ المبتدأ والخبر اعتراضٌ " . واعترضه الشيخُ أيضاً بما تقدَّم . ويمكنُ أن يُجابَ عنه في الموضعين : بأنَّ الزمخشريَّ يمكن أن يعتقدَ أنَّ " جاءَتْهم " حالٌ مما تقدَّم ، فيكون الاعتراضُ واقعاً بين الحالِ وصاحبِها ، وهذا كلامٌ صحيح .

قوله : { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } يجوز أن تكونَ الضمائرُ للكفَّارِ ، أي : فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواههم من الغيظ . و " في " على بابِها من الظرفية ، أو فَرَدُّوا أيديَهم على أفواههم ضحكاً واستهزاءً . ف " في " بمعنى على ، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولِهم : إنَّا كَفَرْنا ، فهي بمعنى إلى . ويجوز أن يكونَ المرفوعُ للكفار والآخران للرسل ، على أن يُراد بالأيدي النِّعَم ، أي : رَدُّوا نِعَمَ الرُّسُل وهي نصائحُهم في أفواهِ الرسل ، لأنهم إذا كَذَّبوها كأنهم رَجَعوا بها من حيث جاءَتْ على سبيل المثل . [ ويجوز أن يُراد هذا المعنى ، والمرادُ بالأيدي الجوارح ] . ويجوز أن يكون الأوَّلان للكفار ، والأخيرُ للرسُل ، أي : فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواهِ الرسُل ، أي : أطبِقُوا أفواهَكم ، يشيرون إليهم بالسكوت ، أو وَضَعُوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ .

وقيل : " في " هنا بمعنى الباء . قال الفراء : " قد وَجَدْنَا من العرب مَنْ يجعل " في " موضعَ الباء . يُقال : أَدْخَلَكَ بالجنَّة ، وفي الجنَّة ، وأنشَد :

وأرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورَهْطِهِ *** ولكنَّني عن سِنْبِسٍ لستُ أرغبُ

أي : أرغب بها . وقال أبو عبيدةَ : " هذا ضَرْبُ مَثَلٍ ، تقول العرب : " رَدَّ يَدَه في فيه " ، إذا أمسكَ عن الجوابِ " ، وقاله الأخفش أيضاً . وقال القتيبي : " لم نسمعْ أحداً يقول : " رَدَّ يده في فيه " إذا تَرَكَ ما أُمِرَ به " . ورُدَّ عليه ، فإنَّ مَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ يَحْفَظْ .

وقرأ طلحة " تَدْعُونَّا " بإدغامِ نونِ الرفع في نون الضميرِ ، كما تُدْغَم في نونِ الوقاية .