قوله تعالى : { وقال } يعني إبراهيم لقومه : { إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم } قرأ ابن كثير ، والكسائي ، وأبو عمرو ، ويعقوب : مودة رفعاً بلا تنوين ، بينكم خفضاً بالإضافة على معنى : إن الذين اتخذتم من دون الله أوثاناً هي مودة بينكم ، { في الحياة الدنيا } ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة . وقرأ حمزة وحفص : مودة من غير تنوين على الإضافة بوقوع الاتخاذ عليها . وقرأ الآخرون مودةً منصوبة منونة بينكم بالنصب ، معناه : إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودةً بينكم في الحياة الدنيا تتوادون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا . { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً } تتبرأ الأوثان من عابديها ، وتتبرأ القادة من الأتباع ، وتلعن الأتباع القادة ، { ومأواكم } جميعاً العابدون والمعبودون . { النار وما لكم من ناصرين* }
{ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا } أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها ، وثاني مفعولي { اتخذتم } محذوف ويجوز أن تكون مودة المفعول الثاني بتقدير مضاف أي اتخذتم أوثان سبب المودة بينكم أو بتأويلها بالمودودة ، وقرأها نافع وابن عامر وأبو بكر منونة ناصبة بينكم والوجه ما سبق ، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس مرفوعة مضافة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة بينكم ، والجملة صفة { أوثانا } أو خبر إن على { إنما } مصدرية أو موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول ، وقرئت مرفوعة منونة ومضافة بفتح { بينكم } كما قرئ { لقد تقطع بينكم } وقرئ " إنما مودة بينكم " . { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } أي يقوم التناكر والتلاعن بينكم ، أو بينكم وبين الأوثان على تغليب المخاطبين كقوله تعالى : { ويكونون عليهم ضدا } { ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } يخلصونكم منها .
وفي قوله { اتخذتم } ضمير عائد على الذي ، وهذا الضمير هو مفعول أول ل { اتخذتم } ، و { أوثاناً } مفعول ثان ، و «مودة » خبر «إن » في قراءة من نونها ، وفي قراءة من لم ينونها ويجوز أن تكون «ما » كافة ولا يكون في قوله { اتخذتم } ضمير ويكون قوله { أوثاناً } مفعولاً لقوله { اتخذتم } ثم يقتصر عليه ، ويقدر الثاني آلهة أو نحوه ، كما يقدر قوله تعالى { إن الذين اتخذوا العجل } [ الأعراف : 152 ] أي إلهاً { سينالهم غضب من ربهم }{[9239]} [ الأعراف : 152 ] ، ويكون قوله «مودةٌ » خبر ابتداء تقديره هو مودة وفي هذه التأويلات مجاز واتساع في تسمية الأوثان «مودة » أو يكون ذلك على حذف مضاف ، وأما من نصب مودة فعلى أن «ما » كافة وعلى خلو { اتخذتم } من الضمير والاقتصار على المفعول الواحد كما تقدم ويكون نصب «المودة » على المفعول من أجله ، ومن أضاف «المودة » إلى «البين » في القراءتين بالنصب والرفع تجوز في ذلك وأجرى الظرف مجرى الأسماء ، ومن نصب «بينَكم » في قراءتي الرفع والنصب في «مودة » فكذلك يحتمل أن ينتصب انتصاب الظروف ويكون معلقاً ب «مودة » وكذلك { في الحياة الدنيا } ظرف أيضاً متعلق ب «مودة » وهو مصدر عمل في ظرفين من حيث افترقا بالمكان والزمان ولو كانا لواحد منهما لم يجز ذلك ، تقول رأيت زيداً أمس في السوق ولا تقول رأيت زيداً أمس البارحة اللهم إلا أن يكون أحد الظرفين جزءاً للآخر ، رأيت زيداً أمس عشية ، ويجوز أن ينتصب «بينكم » على أنه صفة ل «مودة »{[9240]} فهنا محذوف مقدر تقديره «مودة » ثابتة «بينكم » ، وفي الظرف ضمير عائد على «مودة » لما حذفت ثابتة استقر الضمير في الظرف نفسه ، وقوله { في الحياة الدنيا } ظرف في موضع الحال من الضمير الكائن في { بينكم } بعد حذف ثابتة فهذه الحال متعلقة ب «مودة » وجاز تعلقها بها ، وهي قد وصفت لأن معنى الفعل فيها ، وإن وصفت فلا يمتنع أن يعمل معنى الفعل إلا في المفعول ، فأما في الظرف والحال فيعمل ، قال مكي : ويجوز أن يكون { في الحياة } صفة ثابتة ل «مودة » ويكون فيها مقدر مستقر وفيها ضمير ثان عائد إلى «مودة » فالتقدير على هذا مودة ثابتة بينكم مستقرة في الحياة الدنيا . قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يكون قوله «مودة » في قراءة من نصب مفعولاً ثانياً لقوله { اتخذتم } ويكون في ذلك اتساع فتأمله ، وفي مصحف أبي بن كعب «مودة بينهم » بالهاء وفي مصحف ابن مسعود «إنما مودّة بينكم » .
يجوز أن تكون مقالته هذه سابقة على إلقائه في النار وأن تكون بعد أن أنجاه الله من النار . والأظهر من ترتيب الكلام أنها كانت بعد أن أنجاه الله من النار ، أراد به إعلان مكابرتهم الحق وإصرارهم على عبادة الأوثان بعد وضوح الحجة عليهم بمعجزة سلامته من حرق النار . وتقدم ذكر الأوثان قريباً .
ومحط القصر ب { إنما } هو المفعول لأجله ؛ أما قصر المعبودات من دون الله على كونها أوثاناً فقد سبق في قوله { إنما تعبدون من دون الله أوثاناً } [ العنكبوت : 17 ] أي ما اتخذتم أوثاناً إلا لأجل مودّة بعضكم بعضاً . ووجه الحصر أنه لم تبق لهم شبهة في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضاً الداعية لإباية المخالفة . والمودة : المحبة والإلف . ويتعين أن يكون ضمير { بينكم } شاملاً للأوثان .
والمودة : المحبة . فهؤلاء القوم يحب بعضهم بعضاً فلا يخالفه وإن لاح له أنه على ضلال ، ويحبون الأوثان فلا يتركون عبادتها وإن ظهرت لبعضهم دلالة بطلان إلهيتها قال تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] .
قال الفخر : أي مودة بين الأوثان وعبدتها فإن من غلبت عليه اللذات الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين مجمع من الأكابر لا يلتفت إلى اللذة العقلية من الحياء وحسن السيرة بل يحصِّل ما فيه لذة جسمه . فهم كانوا قليلي العقول فغلبت عليهم اللذات الجسمية فلم يتسع عقلهم لمعبود غير جسماني ورأوا تلك الأصنام مُزينة بألوان وجواهر فأحبوها .
وفعل { اتخذتم } مراد به الاستمرار والبقاء على اتخاذها بعد وضوح حجة بطلان استحقاقها العبادة .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف { مودة } منصوباً منوناً بدون إضافة ، و { بينكم } منصوباً على الظرفية . وقرأ حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب { مودة } منصوباً غير منون بل مضافاً إلى { بينكم } ، و { بينكم } مجرور أو هو من إضافة المظروف إلى الظرف . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب مرفوعاً مضافاً على أن تكون ( ما ) في { إنما } موصولة وحقها أن تكتب مفصولة ، و { مودة } خبر ( إن ) تكون كتابة { إنما } متصلة من قبيل الرسم غير القياسي فيكون الإخبار عنها بأنها مودة إخباراً مجازياً عقلياً باعتبار أن الاتخاذ سبب عن المودة . ولما في المجاز من المبالغة كان فيه تأكيد للخبر بعد تأكيده ب ( إن ) فيقوم التأكيدان مقام الحصر إذ ليس الحصر إلا تأكيداً على تأكيد كما قال السكاكي ، أي لأنه بمنزلة إعادة الخبر حيث يُثبت ثم يؤكد بنفي ما عداه .
والخبر مستعمل في غير إفادة الحكم بل في التنبيه على الخطأ بقرينة قوله عقبه { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً } . ونظيره جملة صلة الموصول في قول عبدة بن الطبيب{[310]} :
إن الذين تَروْنهم إخوانَكم *** يشفي غليل صدورهم أن تُصرعوا
ولما كان في قوله { مودة بينكم } شائبة ثبوت منفعة لهم في عبادة الأوثان إذ يكتسبون بذلك مودة بينهم تلذ لنفوسهم قرنه بقوله { في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } الخ تنبيهاً لسوء عاقبة هذه المودة وإزالة للغرور والغفلة ، ليعلموا أن اللذات العاجلة لا عِبرة بها إن كانت تَعقِب ندامة آجلة .
ومعنى { يكفر بعضكم ببعض } أن المخاطبين يكفرون بالأصنام التي كانوا يعبدونها إذ يجحدون يوم القيامة أنهم كانوا يعبدونها .
ومعنى { ويلعن بعضكم بعضاً } أن المخاطبين يلعن كل واحد منهم الآخرين ؛ إما لأن الملعونين غرّوا اللاعنين فسوّلوا لهم اتخاذ الأصنام ، وإما لأنهم وافقوهم على ذلك .
وهذه مخاز تلحق بعضهم من بعض ، ثم ذكر ما يعمهم من عذاب الخزي بقوله { ومأواكم النار } .
ثم ذكر ما يعمهم جميعاً من انعدام النصير فقال { وما لكم من ناصرين } فنفى عنهم جنس الناصر . وهو من يزيل عنهم ذلك الخزي . وجيء في نفي الناصر بصيغة الجمع هنا خلافاً لقوله آنفاً { وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير } [ العنكبوت : 22 ] لأنهم لما تألبوا على إبراهيم وتجمعوا لنصرة أصنامهم كان جزاؤهم حرمانهم من النصراء مطابقة بين الجزاء والحالة التي جوزوا عليها . على أن المفرد والجمع في حيّز النفي سواء في إفادة نفي كل فرد من الجنس .