اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡثَٰنٗا مَّوَدَّةَ بَيۡنِكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُ بَعۡضُكُم بِبَعۡضٖ وَيَلۡعَنُ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا وَمَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِينَ} (25)

قوله : «إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ » في «ما » هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون موصولة{[41290]} بمعنى الذي ، والعائد محذوف وهو المفعول الأول ، و «أَوْثَانًا » مفعول ثان ، والخبر «مَوَدَّةُ » في قراءة{[41291]} من رفع كما سيأتي ، والتقدير : إنَّ الذي اتَّخَذْتُمُوهُ أوْثَاناً مودةٌ أي ذو مودة أو جعل نفس المودة محذوف على قراءة من نصب{[41292]} «مَوَدَّةً » أي الذي اتخذتموه أوثاناً لأجل المودة لا تنفعكم ، أو يكون «عليكم » لدلالة قوله : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } .

والثاني : أن تجعل «ما » كافة{[41293]} ، و «أوثاناً » مفعول به ، والاتخاذ هنا يتعدى لواحد أو لاثنين والثاني هو { مِن دُونِ الله } فمن رفع «مودة » كانت خبر مبتدأ مضمر أي هي مودة أي ذات مودة ، أو جعلت نفس المودة مبالغة والجملة حينئذ صفة «لأوثاناً »{[41294]} ، أو مستأنفة{[41295]} ، ومن نصب كانت مفعولاً به{[41296]} ، أو بإضمار «أعْنِي » .

الثالث : أن تجعل «ما » مصدرية ، وحينئذ يجوز أن تقدر مضافاً من الأول أي أن سبب اتخاذكم أوثاناً من دون الله ( مودة{[41297]} فيمن رفع مودة ، ويجوز أن لا يقدر بل يجعل نفس الاتحاد ){[41298]} هو المودة مبالغة{[41299]} ( و ){[41300]} في قراءة من نصب يكون الخبر محذوفاً على ما مَرَّ في الوجْهِ الأوّل .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع «مَوَدَّةُ » غير منونة ، وجر «بَيْنِكُمْ »{[41301]} ، ونافع{[41302]} وابن{[41303]} عامِرٍ وأبو بكر{[41304]} بنصب «مَوَدَّةً » ( منونة{[41305]} ونصب «بَيْنَكُمْ » وحمزة وحفص{[41306]} بنصب «مودةً » ) غير منونة وجر بَيْنِكُمْ ، فالرفع قد تقدم ، والنصب أيضاً تقدم فيه وجهان . ويجوز وجه ثالث وهو أن يجعل مفعولاً ثانياً على المبالغة والإضافة للاتساع في الظرف{[41307]} كقولهم : «يا سارقَ الليلةَ أهْل الدَّارِ » من صبه فعلى أصله{[41308]} ، ونقل عن عاصم{[41309]} أنه رفع «مودة » غير منونة ، ونصب بينكم وخرجت إضافة «مودة » للظرف ، وإنما بني لإضافته إلي غير متمكن كقراءة : { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }{[41310]} بالفتح إذا جعلنا ( بَيْنَكُمْ ) فاعلاً ، وأما «في الحياة » ففيه أوجُهٌ :

أحدها : أنه هو وبينكم متعلقان «بمودة » إذا نونت جاز تعلقها بعامل واحد لاختلافهما{[41311]} .

الثاني : أن يتعلقا بمحذوف على أنهما صفتان{[41312]} ل «المودة » .

الثالث : أن يتعلق «بَيْنِكُمْ » «بِمودّة » و «في الحياة » صفة لمودة ، ولا يجوز العكس لئلا يلزم إعمال المصدر الموصوف{[41313]} ، والفرق بينه وبين الأول أن الأول عمل فيه المصدر قبل أن يوصف ، وهذا عمل فيه بعد أن وصف ، على أن ابن عطية جوز ذلك هو وغيره{[41314]} ، وكأنهم اتسعوا في الظرف ، فهذا وجه رابع .

الخامس : أن يتعلق «في الحياة » بنفس «بينكم » لأنه بمعنى الفعل ، ( إذ ){[41315]} التقدير : اجتماعكم ووصلكم{[41316]} .

السادس : أن يكون حالاً من نفس «دينكم »{[41317]} .

السابع : أن يكون «بيْنكم » صفة المودة{[41318]} و «في الحياة » ، حال من الضمير المستكن فيه .

الثامن : أن يتعلق «في الحياة » «باتخذتم »{[41319]} على أن يكون «ما » كافة و «مودة » منصوبة ، قال أبو البقاء : لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في الصلة ( بالخبر ){[41320]} .

قوله{[41321]} : «وقال » يعني إبراهيم { إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم } ، فعلى قراءة رفع «مودة » وخفض «بينكم » بالإضافة يكون المعنى : اتخذتم من دون الله أوثاناً وهي مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة ، ومن خفض «مودة » من غير تنوين على الإضافة لوقوع الاتخاذ عليها ، ومن نصب «مودة » ونونها ونصب «بينكم » فالمعنى : إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا تتوادُّونَ على عبادتها ، وتتواصلون عليها في الدنيا { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ } تتبرأ الأوثان من عبادة عابديها وتتبرأ السادة من الأتباع ، ويلعن الأتباع القادة .

ومأواكم النار جميعاً ، العابدون والمعبودون { وَمَا لَكُمْ مِن نَاصِرِينَ } .

فإن قيل : ( قال قبل هذا ){[41322]} ومأواكم النار ، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير على لفظ الواحد .

وقال هنا : { وما لكم من ناصرين } على لفظ الجمع فما الحكمة فيه ؟ .

فالجواب : أنهم لما أرادوا إحراق إبراهِيمَ عليه ( الصلاة و ){[41323]} السلام ، قالوا : نحن ننصر آلهتنا ، كما قال تعالى ( عنهم ){[41324]} : حَرِّقُوه وانصروا آلهتكم ، فقال : أنتم ادَّعَيْتُم أن لهؤلاء ناصرينَ فما لكم كلكم أي الأوثان وعبدتهما من ناصرين ، وأما هناك فلم يسبق منهم دعوى النصر فنفى الجنس بقوله : «ولا نصير » .


[41290]:إعراب القرآن للنحاس 3/254، والدر المصون 4/301، والبيان لابن الأنباري 2/242، وإعراب القرآن ومعانيه للزجاج 4/167، ومعاني القرآن للفراء 2/316، والتبيان لأبي البقاء 2/1031، ومشكل إعراب القرآن 2/168، 169.
[41291]:الكشف 2/128. وهي قراءة أبي عمرو، وابن كثير، والكسائي "غير منون" وخفض "بينكم"، مودة بينكم" أي على الإضافة. وانظر: التبيان 2/1031، والنشر 3/343، وتقريب النشر 158، وانظر: السبعة لابن مجاهد 498، والإتحاف 345، والحجة لابن خالويه 279، بدون نسبة كما في التبيان.
[41292]:وهي قراءة نافع وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر منوناً بالنصب، وقرأ حفص وحمزة وعاصم في رواية حفص "مودة بينكم" بنصب مودة مع الإضافة، السبعة 499، وانظر: النشر 2/243، وتقريب النشر 158 والإتحاف 345، وحجة ابن خالويه 279.
[41293]:التبيان 1030، والدر المصون 4/301، والبيان 2/242، والبحر المحيط 7/148، 149.
[41294]:التبيان 2/1030، والدر المصون 4/301.
[41295]:انظر: البحر المحيط 7/148، ومعاني القرآن 2/316، والدر المصون 4/301.
[41296]:التبيان 2/1030، والكشف 2/178 والمشكل 2/168.
[41297]:التبيان 2/1030.
[41298]:ما بين المعقوفين ساقط من ب.
[41299]:انظر: البحر المحيط 7/148.
[41300]:ساقط من أ.
[41301]:انظر: المراجع السابقة.
[41302]:نافع: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أبو الرحمن الليثي مولاهم أحد القراء السبعة والأعلام، ثقة: صالح، أخذ عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وأبي جعفر القارئ وغيرهما، مات سنة 169، انظر: غاية النهاية 2/330.
[41303]:ابن عامر: عبد الله بن عامر بن يزيد بن عمران اليحصبي، إمام أهل الشام في القراءة، وإليه انتهت مشيخة الإقراء بها مات سنة 118 هـ، انظر: غاية النهاية في طبقات القراء 1/424.
[41304]:أبو بكر بن سالم الأسدي الكوفي الإمام أحد الأعلام مولى واصل الأحدب، وكان ضابطاً، اختلف في اسمه، قرأ على عاصم، وروى عن إسماعيل السدي، وأبي حصين، مات سنة 193 هـ. انظر: غاية النهاية 1/325، ومعرفة القراء الكبار للذهبي 1/134 و 138، وخلاصة الكمال للخزرجي 445.
[41305]:ما بين المعقوفين ساقط من النسخة ب.
[41306]:حفص: هو حفص بن سليمان أبو عمرو البزاز، أخذ عن عاصم مرتفعاً إلى علي بن أبي طالب من رواية أبي عبد الرحمن السلمي، مات حفص قبل الطاعون سنة 131 هـ. انظر: الفهرست لابن النديم 43.
[41307]:انظر: حجة ابن خالويه 280.
[41308]:لأنه ظرف والأصل فيه النصب، على أن مكي أجاز نصبه على أنه صفة لمودة، الكشف 2/278.
[41309]:عاصم بن بهدلة بن أبي النجود وأبو بكر الأسدي مولاهم الكوفي شيخ الإقراء بالكوفة وأحد القراء السبعة أخذ القراءة عرضاً عن زر بن حبيش، والسلمي وروى عنه أبان بن تغلب، وحفص، مات سنة 120 هـ. انظر: خلاصة الكمال 347 و 349، وغاية النهاية 1/347.
[41310]:[الأنعام: 94]، وانظر: السبعة 263.
[41311]:انظر: البيان 2/242 و 243.
[41312]:قال أبو حيان في البحر: "ويجوز أن يتعلقا بمحذوفين فيكونان في موضع الصفة" البحر 7/148.
[41313]:البيان 2/243.
[41314]:انظر: شرح المفصل لابن يعيش 1/45، والبحر 7/149.
[41315]:ساقط من ب.
[41316]:انظر: التبيان 2/1032، والدر المصون 4/303.
[41317]:المرجع السابق.
[41318]:انظر: البيان 2/243.
[41319]:انظر: التبيان 2/1032، والدر المصون 4/303 وانظر في كل ما سبق المشكل 2/68، 172.
[41320]:ساقط من ب.
[41321]:في ب: فصل بدل قوله.
[41322]:ساقط من ب.
[41323]:ساقط من ب.
[41324]:ساقط من ب.