محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡثَٰنٗا مَّوَدَّةَ بَيۡنِكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُ بَعۡضُكُم بِبَعۡضٖ وَيَلۡعَنُ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا وَمَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِينَ} (25)

{ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي لتتوادوا بينكم وتتواصوا ، لاجتماعكم على عبادتها { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا } أي تتجاحدون ما كان بينكم ، ويلعن الأتباع المتبوعين ، والمتبوعون الأتباع . كما قال تعالى {[6044]} : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } وقال تعالى {[6045]} : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } { وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ } .

تنبيه :

قال السمين : في ( ما ) من قوله تعالى { إنما اتخذتم } ثلاثة أوجه :

أحدها – أنها موصولة بمعنى { الذي } والعائد محذوف ، وهو المفعول الأول و { أوثانا } مفعول ثان . والخبر { مودة } في قراءة من رفع . والتقدير : إن الذي اتخذتموه أوثانا مودة ، أي ذو مودة ، أو جعل نفس المودة مبالغة . ومحذوف على قراءة من نصب { مودة } أي : الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة لا ينفعكم ، أو يكون عليكم ، لدلالة قوله : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ } .

والثاني – أن تجعل ( ما ) كافة و { أوثانا } مفعول به . و ( الاتخاذ ) ها هنا متعد لواحد أو لاثنين ، والثاني هو { من دون الله } فمكن رفع { مودة } كانت خبرا مبتدأ مضمر ، أي هي مودة أي ذات مودة . أو جعلت نفس المودة مبالغة . والجملة حينئذ صفة ل { أوثانا } أو مستأنفة . ومن نصب كان مفعولا له ، أو بإضمار ( أعنى ) .

الثالث – أن تجعل ( ما ) مصدرية ، وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول . أي : أن سبب اتخاذكم أوثانا مودة ، فيمن رفع { مودة } ويجوز أن لا يقدر ، بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة . ومن القراء من رفع { مودة } غير منونة وجر { بينكم } ومنهم من نصب { مودة } منونة ونصب { بينكم } ومنهم من نصب { مودة } منونة وجر { بينكم } . فالرفع تقدم . والنصب تقدم أيضا فيه وجهان . وجوز ثالث ، وهو أن يجعل مفعولا ثانيا عن المبالغة والإضافة ، للاتساع في الظرف .

ونقل عن عاصم أنه رفع { مودة } غير منونة ونصب { بينكم } وخرجت على إضافته { مودة } للظرف . وإنما بني لإضافته إلى غير متمكن . اه .

وأشار العلامة القاشاني إلى جواز أن يكون قوله تعالى : { في الحياة الدنيا } خبرا ل ( ما ) إن كانت اسمية . وهو وجه لم يتعرض له المعربون هنا ، ولا مانع منه . وعبارته :

إنما اتخذتم من دون الله ، شيئا عبدتموه مودودا فيما بينكم { في الحياة الدنيا } أو : إن كان كل ما اتخذتم من دون الله ، شيئا مودودا فيما بينكم في الحياة الدنيا ، أو : إن كل ما اتخذتم أوثانا مودود في هذه الحياة الدنيا . أو لمودة بينكم في هذه ، على القراءتين .

ثم قال : والمعنى أن المودة قسمان : مودة دنيوية ، ومودة أخروية . والدنيوية منشؤها النفس ، والأخروية منشؤها الروح . فكل ما يحب ويود من دون الله ، لا لله ولا بمحبة الله ، فهو محبوب بالمودة النفسية . وهو هوى زائل ، كلما انقطعت الوصلة البدنية زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات ، فإنها نشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج . فإذا انحل التركيب وانحرف المزاج ، تلاشت وبقي التضاد والتعاند ، بمقتضى الطبائع ، لقوله تعالى : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ } الآية . ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن .

وأما الأخروية فمنشؤها المحبة الإلهية . وتلك المودة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء ، لتناسب الصفات ، وتجانس الذوات ، لا تتصفى غاية الصفاء إلا عند زوال التركيب . فيصير يوم القيامة محبة صرفة الهيئة ، بخلاف تلك . انتهى .


[6044]:(7 الأعراف 38).
[6045]:(43 الزخرف 67).