قوله تعالى : { ولو أنا كتبنا } أي : فرضنا وأوجبنا .
قوله تعالى : { عليهم أن اقتلوا أنفسكم } . كما أمرنا بني إسرائيل .
قوله تعالى : { أو اخرجوا من دياركم } ، كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر .
قوله تعالى : { ما فعلوه } ، معناه : أنا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول ، والرضى بحكمه ، ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من ديارهم ما فعلوه .
قوله تعالى : { إلا قليل منهم } ، نزلت في ثابت بن قيس ، وهو من القليل الذي استثنى الله ، قال الحسن ومقاتل : لما نزلت هذه الآية قال عمر ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن مسعود ، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل : والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن من أمتي لرجالاً الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي ) .
قرأ ابن عامر وأهل الشام : { إلا قليلاً } بالنصب على الاستثناء ، وكذلك هو في مصحف أهل الشام ، وقيل : فيه إضمار ، تقديره : إلا أن يكون قليلاً منهم ، وقرأ الآخرون ( قليل ) بالرفع على الضمير الفاعل في قوله : { فعلوه } تقديره : إلا نفر قليل فعلوه .
قوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } ، يؤمرون من طاعة الرسول والرضا بحكمه .
قوله تعالى : { لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً } ، تحقيقاً أو تصديقاً لإيمانهم .
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر ، وهذا من علمه - تبارك وتعالى - بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ }
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثني إسحاق ، حدثنا أبو زهير{[7854]} عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : لما نزلت : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهْ إلا قَلِيلٌ [ مِنْهُمْ ]{[7855]} } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " {[7856]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير ، حدثنا روح ، حدثنا هشام ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } الآية . قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو فعل ربنا لفعلنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لَلإيمان{[7857]} أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي " .
وقال السدي : افتخر ثابت بن قيس بن شَمَّاس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا . فقال ثابت : والله لو كتب علينا : { أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } لقتلنا . فأنزل الله هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غَيْلان ، حدثنا بشر بن السَّرِي ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير ، قال : لما نزلت [ { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال أبو بكر : يا رسول الله ، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت ، قال : " صدقت يا أبا بكر " .
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنيّ قال : سئل سفيان عن قوله ]{[7858]} { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " .
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن شُرَيْح بن عُبَيْد قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ]{[7859]} } الآية ، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رَواحة ، فقال : " لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل " يعني : ابن رواحة .
ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به ، وتركوا ما ينهون عنه { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي : من مخالفة الأمر وارتكاب النهي { وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } قال السدي : أي : وأشد تصديقا .
و { كتبنا } معناه فرضنا ، و { اقتلوا أنفسكم } معناه ليقتل بعضكم بعضاً ، وقد تقدم نظيره في البقرة ، وضم النون من { أن } وكسرها جائز ، وكذلك الواو من { أو أخرجوا } وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي ، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم ، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو ، و { قليل } رفع على البدل من الضمير في { فعلوه } ، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلاً » ، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب .
وسبب الآية على ما حكي : أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام : ما رأينا أسخف من هؤلاء ، يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطؤون عقبه ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفاً فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلناه ، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين ، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه ، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون ، كثابت وغيره ، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل . وشركهم في ضمير { منهم } لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة ، وقال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت { ولو أنا كتبنا عليهم } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إن من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي »{[4139]} وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق ، وذكر النقاش : أنه عمر بن الخطاب ، وذكر عن أبي بكر أنه قال : لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي وقوله تعالى : { ولو أنهم فعلوا } أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيراً لهم ، و { تثبيتاً } معناه : يقيناً وتصديقاً ونحوهذا ، أي يثبتهم الله .
لم يظهر وجه اتّصاله بما قبله ليعطف عليه ، لأنّ ما ذكر هنا ليس أولى بالحكم من المذكور قبله ، أي ليس أولى بالامتثال حتّى يقال : لو أنّا كلّفناهم بالرضا بما هو دون قطع الحقوق لما رضوا ، بل المفروض هنا أشدّ على النفوس ممّا عصوا فيه . فقال جماعة من المفسّرين : وجه اتّصالها أنّ المنافق لمّا لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وأراد التحاكم إلى الطاغوت ، وقالت اليهود : ما أسخف هؤلاء يؤمنون بمحمّد ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمَرنَا نبيئُنا بقتل أنفسنا ففعلنْا وبلغت القتلى منّا سبعين ألفاً ؛ فقال ثابت بن قيس بن شماس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا ، فنزلت هذه الآية تصديقاً لثابت بن قيس ، ولا يخفى بعده عن السياق لأنّه لو كان كذلك لما قيل { ما فعلوه إلاّ قليل منهم } بل قيل : لفعله فريق منهم . وقال الفخر : هي توبيخ للمنافقين ، أي لو شدّدنا عليهم التكليف لما كان من العجب ظهور عنادهم ، ولكنّا رحمناهم بتكليفهم اليسر فليْتركوا العناد . وهي على هذا الوجه تصلح لأن تكون تحريضاً للمؤمنين على امتثال الرسول وانتفاء الحرج عنهم من أحكامه ، فإنّه لم يكلّفهم إلاّ اليسر ، كلّ هذا محمول على أنّ المراد بقتل النفوس أن يقتل أحد نفسه بنفسه .
وعندي أنّ ذكر ذلك هنا من براعة المقطع تهيئة لانتقال الكلام إلى التحريض على الجهاد الآتي في قوله : { يأيّها الذين آمنوا خذوا حذركم } [ النساء : 71 ] وأنّ المراد ب { اقتلوا أنفسكم } : ليقتل بعضكم بعضاً فإنّ المؤمنين يقاتلون قومهم وأقاربهم من المشركين في الجهاد المأمور به بدليل قوله : { ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به } الآية . والمراد بالخروج من الديار الهجرة ، أي كتبنا عليهم هجرة من المدينة ، وفي هذا تنويه بالمهاجرين والمجاهدين .
وقرأ الجمهور { إلاّ قليل } بالرفع على البدل من الواو في { ما فعلوه } على الاستثناء . وقرأه ابن عامر بالنصب على أحد وجهي الاستثناء من الكلام المنفي .
ومعنى { ما يوعظون به } علم من قوله : { فأعرض عنهم وعظهم } [ النساء : 63 ] ، أي ما يؤمرون به أمر تحذير وترقيق ، أي مضمون ما يوعظون لأنّ الوعظ هو الكلام والأمر ، والمفعول هو المأمور به ، أي لو فعلوا كلّ ما يبلّغهم الرسول ، ومن ذلك الجهاد والهجرة . وكونُه خيراً أنّ فيه خير الدنيا لأنّ الله يعلم وهم لا يعلمون .
ومعنى كونه { أشدّ تثبيتاً } يحتمل أنّه التثبيت على الإيمان وبذلك فسّروه ويحتمل عندي أنّه أشدّ تثبيتاً لهم ، أي لبقائهم بين أعدائهم ولعزّتهم وحياتهم الحقيقية فإنّهم إنّما يكرهون القتال استبقاء لأنفسهم ، ويكرهون المهاجرة حبّاً لأوطانهم ، فعلّمهم الله أنّ الجهاد والتغرب فيه أو في غيره أشدّ تثبيتاً لهم ، لأنّه يذود عنهم أعداءهم ، كما قال الحصين بن الحُمَام :
تأخَّرْتُ أسْتَبْقِي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدّما
وممّا دلّ على أنّ المراد بالخير خير الدنيا ، وبالتثبيت التثبيت فيها ، قوله عاطفاً عليه { وإذن لآتيناهُم من لَدُنَّا أجراً عظيماً } .