الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا} (66)

قوله تعالى : { أَنِ اقْتُلُواْ } : " أن " فيها وجهان ، أحدُهما : أنها المفسرةُ ؛ لأنها أتت بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه ، وهذا أَظْهَرُ . والثاني : أنها مصدريةٌ ، وما بعدها من فعل الأمر صلتُها وفيه إشكال من حيث إنه أذا سُبِكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ فاتت الدلالة على الأمر ، ألا ترى أنك إذا قلت : " كتبت إليه أَنْ قم " فيه من الدلالة على طلبِ القيامِ بطريقِ الأمر ما لا في قولِك : " كتبت إليه القيامَ " ولكنهم جَوَّزوا ذلك ، واستدلُّوا بقولهم " كتبت إليه بأَنْ قم " ، ووجهُ الدلالةِ أنَّ حرفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق ، وتحريرُ المبحثِ في ذلك في " الشرح الكبير للتسهيل " .

وقرأ أبو عمرو بكسرِ نون " أَنْ " ، وضم واو " أو " وكسرهما حمزة وعاصم ، وضَمَّهما باقي السبعة ، فالكسرُ على أصل التقاء الساكنين ، والضمُّ للإتباع للثالث ، إذ هو مضمومٌ ضمةً لازمة ، وإنما فَرَّق أبو عمرو لأن الواوَ أختُ الضمةِ ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة عند قوله :

{ فَمَنِ اضْطُرَّ } [ الآية : 173 ] . قوله : { مَّا فَعَلُوهُ } الهاء يُحْتمل أن تكون ضمير مصدر " اقتلوا " أو " اخرجوا " أي : ما فعلوا القتل أو ما فعلوا الخروج . وقد أبعد فخر الدين الرازي حيث زعم أنها تعودُ إليهما معاً ، لنُبُوِّ الصناعة عنه . [ وأجاز أبو البقاء وجهاً رابعاً ] : وهو أن يعودَ على المكتوبِ ودَلَّ عليه " كتبنا " .

قوله : { إِلاَّ قَلِيلٌ } رفعُهُ من وجهين ، أحدهما : أنه بدلٌ من فاعل " فَعَلوه " وهو المختارُ على النصب ؛ لأن الكلامَ غيرُ موجبٍ ، الثاني : أنه معطوفُ على ذلك الضمير المرفوع ، و " إلاَّ " حرفُ عطف ، وهذا رأي الكوفيين ، ولهذه المسألةِ موضوعٌ غير هذا . وقرأ ابن عامر وجماعة : " إلا قليلاً " نصباً وفيه وجهان ، أشهرُهما : أنه نصب على الاستثناء وإن كان الاختيارُ الرفَع ؛ لأنَّ المعنى موجودٌ معه كما هو موجود مع النصب ، ويَزيدُ عليه بموافقة اللفظ . والثاني : أنه صفة لمصدر محذوف تقديرُه : " إلا فعلاً قليلاً " قاله الزمخشري ، وفي نظرٌ ، إذ الظاهرُ أنَّ " منهم " صفةٌ ل " قليلاً " ومتى حُمِل القليلُ على غير الأشخاص يَقْلَق هذا التركيب ، إذلا فائدةَ حينئذ في ذِكْرِ " منهم " .

قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } قد تقدَّم الكلام على نظير هذه المسألة في مواضع ، " وما " في " ما يوعظون " موصولةٌ اسمية . والباءُ في " به " تحتمل أن تكونَ المعدِّيةَ دخلت على الموعوظ به ، والموعوظُ به على هذا هو التكاليف من الأوامر والنواهي ، وتُسَمَّى أوامرُ اللَّهِ تعالى ونواهيه مواعظَ لأنها مقترنةٌ بالوعد والوعيد ، وأَنْ تكونَ للسبية ، والتقدير : ما يوعظون بسببه أي : بسبب تَرْكِه ، ودلَّ على التَرْكِ المحذوفِ قولُه : " ولو أنهم فعلوا " واسمُ كان ضميرٌ عائد على الفعلِ المفهوم من قوله { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواُْ } أي : لكان فعلُ ما يُوعظون به ، و " خيراً " خبرها ، و " تثبيتاً " تمييز ل " أشد " .