محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا} (66)

وقوله تعالى :

( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ، ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا66 ) .

( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ) . قال الرازي : اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الإخلاص وترك النفاق . والمعنى : إنا لو شددنا التكليف على الناس ، نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان ، لصعب ذلك عليهم ، ولما فعله إلا الأقلون . وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم . فلما لم نفعل ذلك ، رحمة منا على عبادنا ، بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة ، فليقبلوها بالإخلاص ، وليتركوا التمرد والعناد ، حتى ينالوا خير الدارين . انتهى .

ونقله فيما بعد عن ابن عباس . وعليه فمرجع الضمير في ( عليهم ) إلى المنافقين . وثمة وجه آخر . وهو عوده إلى الناس كافة . ويكون المراد ب ( القليل ) المؤمنين . واما الضمير في قوله : ( ولو أنهم فعلوا ) فهو مختص بالمنافقين . ولا يبعد ان يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا . قرره الرازي . روى ابن جريج بسنده إلى أبي اسحاق السبيعي قال : " لما نزلت : ( ولو أنا كتبنا عليهم . . . ) الآية . قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ان من أمتي لرجالا ، الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " . ورواه ابن أبي حاتم ونحوه . وأسند عن السدي قال : " افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود . فقال اليهودي : والله ! لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا . فقال ثابت : والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا . فنزلت الأية . وأسند أيضا عن عامر بن عبد الله بن الزبير " أن هذه الأية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " . وأسند أيضا عن شريح بن عبيد قال : ( لما تلا رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، أشار بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال : لو أن الله كتب ذلك ، لكان هذا من أولئك القليل " .

تنبيهات

الأول : قال بعض المفسرين : أراد حقيقة القتل والخروج من الديار . وقيل : أراد التعرض للقتل بالجهاد . وأراد الهجرة بالخروج من الديار . والمعنى : لو أمر المنافقون ، كما أمر المؤمنون ، ما فعلوه . انتهى . والقول الثاني بعيد . لأنه لا يعدل عن الحقيقة الا لضرورة . ولمنافاته للآثار المذكورة الصريحة في الأول .

الثاني : الضمير في ( فعلوه ) للمكتوب الشامل للقتل والخروج . لدلالة ( كتبنا ) عليه . أو هو عائد على أحد مصدري الفعلين . قال الخفاجي : وللعطف ب ( أو ) لزم توحيد الضمير . انتهى . / أقول : ذكر الشيخ خالد في ( التصريح ) أن افراد الضمير في العطف ب ( أو ) رأي البصريين . والتثنية رأي الكوفيين . فأفاد جواز الوجهين . قال محشيه العلامة يس : الذي نص عليه ابن مالك أن ( أو ) التي للشك والابهام يفرد بعدها الضمير . والتي للتنويع يطابق . نحو قوله تعالى : ( ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) {[1972]} . ونص على ذلك ابن هشام في ( المغني ) في ( بحث الجملة المعترضة ) فقال : ( في قوله تعالى : ( ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) : الظاهر أن الجواب : فالله أولى بهما . ولا يرد ذلك تثنية الضمير كما قد توهموا . لأن ( أو ) هنا للتنويع . وحكمها حكم ( الواو ) في وجوب المطابقة . نص عليه الأبدي . وهو الحق . انتهى .

وبه يعلم أن ما اشتهر من أنه إذا ذكر متعاطفان ب ( أو ) فإنه يعاد الضمير إلى أحدهما – ليس على عمومه .

الثالث : قرأ ابن عامر ( قليلا ) بالنصب على الاستثناء . والباقون بالرفع بدلا من الضمير المرفوع ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ) أي : من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته والانقياد لما يحكم به ظاهرا وباطنا . وسميت أوامر الله ونواهيه مواعظ ، لاقترانها بالوعد والوعيد ( لكان ) أي : فعلهم ذلك ( خيرا لهم ) في عاجلهم وآجلهم ( وأشد تثبيتا ) أي لايمانهم ، وأبعد من الاضطراب .


[1972]:|4/ النساء/ 135| ونصها: ( * يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وان تلوا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا135).