هذه الآيةِ مُتَّصِلَة بما تقدَّم من المُنَافِقِين ، وترغيب لَهُم في تَرْكِ النِّفَاقِ ، والمَعْنَى : أنَّا لو شَدَّدْنا التكلِيف على النَّاسِ ؛ نحو أن نأمُرَهُم بالقَتْلِ ، والخُرُوج عن الأوْطَانِ ، لَصَعُبَ ذلك عليهم ولما فَعَلَهُ إلا قَلِيلٌ ، وحينئذٍ يظهر كُفْرُهُم ، فلم نَفْعَلْ ذلك رَحْمَةً مِنَّا على عِبَادِنا ، بل اكْتَفَيْنَا بتكْلِيفِهِم في الأمُور السَّهْلَة ، فَلْيَقْبَلُوهَا ولْيَترُكُوا التَّمرُّد .
نزلت في ثَابت بن قَيْس بن شِمَاس ، نَاظَر يهُودِيَّا{[8648]} . فقال اليَهُودِيّ : إن مُوسَى أمَرَنا بقَتْلِ أنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا ذَلِك ، ومحمد يأمُرُكم بالقِتَال فتكْرَهُونَهُ . فقال ثابت بن قَيْس : لو أنَّ مُحَمَّداً أمَرَنِي بقَتْل نفسي ، لفَعَلْت ذلك فنزلت الآيةُ ، وهو من القَلِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ .
وقال الحسن ومُقاتِل : لماّ نَزَلَت هذه الآيةُ ، قال عُمَر ، وعمَّار بن يَاسِر ، وعبد لله بن مَسْعُود ، وناسٌ من أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليلُ : واللَّه لَوْ أمَرَنَا لفعلنا ، فالحَمْدُ للَّه الذي عَافَانا اللَّه ، فبلغ ذَلِك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال " إنَّ مِنْ أمَّتِي لَرِجَالاً ، الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِهِم مِنَ الجِبَالِ الرَّواسِي " {[8649]} .
والضَّمِيرُ في قوله : { كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } فيه قولان :
الأوّل : قال ابن عبَّاسٍ ومُجَاهِد : إنه عَائِد إلى المُنَافِقين{[8650]} لأنه - تعالى - كَتَبَ على بَنِي إسرائيلَ أن يَقْتُلوا أنْفُسَهم ، وَكَتَب على المُهَاجِرِين أن يَخْرُجُوا من ديارِهم ، فقال : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا } على هؤلاءِ المُنَافِقِين القَتْل والخُرُوجَ ، ما فَعلهُ إلا قَلِيلٌ ريَاءً وسُمْعَة ، وهذا اخْتِيَار الأصَمِّ والقَفَّال .
[ القول ]{[8651]} الثاني : المراد : لو كَتَب اللَّه على النَّاسِ ما ذَكَر ، لم يَفْعَلْه إلا قَلِيلٌ منهم ، فَيَدْخُل فيه المُؤمِنُ والمُنَافِق .
قوله : { أَنِ اقْتُلُواْ } " أن " فيها وجهان :
أحدهما : أنها المُفَسِّرة ؛ لأنَّها أتت بعد ما هُو بمعنى القَوْلِ لا حَرُوفهِ ، وهو أظْهَر .
الثاني : أنها مَصْدَريَّة ، وما بَعْدَها من فِعْل الأمْرِ صِلَتُها ، وفيه إشْكَالٌ ؛ من حيث إنَّه إذا سُبك منها ومِمَّا بَعْدَها مَصْدرٌ ، فأتت للدَّلالةَ [ على الأمر ، ألا تَرَى أنَّك إذا قُلْتَ : كتَبْتُ إلَيْه أنْ قُمْ فيه من الدَّلالَةِ ]{[8652]} على طَلَبِ القِيَام بطريق الأمْرِ ، ما لا في قَوْلِك : كَتَبْتُ إليه القِيَام ، ولكنَّهمُ جَوَّزوُا ذلك واسْتَدَلُّوا بقولِهِم : كَتَبْتُ إليه بأن{[8653]} قُمْ . ووجه الدلالة : أن حَرْفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق .
وقرأ{[8654]} أبو عمرو : بكسر نُونِ " أن " وضَمّ واو " أو " ، قال الزَّجَّاج : ولست أعرف لِفَصْل{[8655]} أبي عَمْروٍ بين هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ خَاصيَّة{[8656]} إلاّ أن يَكُون رِوَايَةً .
وقال غيره : أمّا كَسْر النُّونِ ؛ فلأن الكَسْرَ هُو الأصْلُ في التِقَاء{[8657]} السَّاكِنَيْن ، وأما ضَمُّ الواو فللإتبَاعِ ؛ لأن الضَّمَّة في الواوِ أحسن{[8658]} ؛ لأنَّها تُشْبِه وَاوَ الضَّمِير ، نحو : { اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ } [ البقرة : 16 ] { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ }
[ البقرة : 237 ] وكَسَرَهُمَا حَمْزَة وعَاصِم ؛ لالْتِقَاء السَّاكِنَيْن ، وضَمَّهُمَا ابن كَثِير ، ونَافِع [ وابن عامر ]{[8659]} والكسائي ؛ للاتبَاعِ فيهما .
قوله { مَّا فَعَلُوهُ } . الهاء يُحْتَمَلُ أن تكُون ضمير مَصْدر { اقْتُلُواْ } ، أو { اخْرُجُواْ } أي : ما فَعَلُوا القَتْل ؛ أو ما فَعَلُوا الخُرُوج .
وقال فَخْر الدِّين الرَّازي{[8660]} : تعود إلى القَتْلِ والخُرُوج معاً ؛ لأنه الفِعْل جَنْسٌ وَاحِدٌ وإن اخْتَلَفَت ضُرُوبُه .
قال شهاب الدِّين : وهذا بَعيدٌ لنُبُوّ الصِّنَاعة عَنْهُ ، وأجَازَ أبو البقاء أن يَعُود على المكْتُوب ويَدُلُّ عليه : { كَتَبْنَا } .
قوله : " إلاَّ قليلٌ " رفْعُه من وَجْهَيْن :
أحدهما : أنه بَدَلٌ من فَاعِل { فَعَلُوهُ } وهو المخْتَار على النَّصْبِ ؛ لأن الكلام غير مُوجِبٍ .
الثاني : أنه مَعْطُوف على ذَلِكَ الضَّمِير المَرْفُوع ، و " إلاَّ " حَرْف عَطْفٍ ، وهذا رأي الكوفِيِّين .
وقرأ ابن عامر{[8661]} وجَماعة : { إلاَّ قَلِيلاً } بالنَّصْب ، وكذا هُو في مَصَاحِفِ أهْل الشَّامِ ، ومصْحَف أنس بن مَالِكٍ ، وفيه وَجْهَان :
أشهرهما : أنه نَصْبٌ على الاسْتِثْنَاء وإن كان الاخْتِيَار الرَّفع ؛ لأن المعنى موجُود [ معه كما هُو مَوْجُود ]{[8662]} مع النَّصْب ، ويزيد عليه بمُوَافَقَة اللَّفْظِ .
والثَّاني : أنه صِفَةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، تقديره : إلا فِعْلاً قليلاً ، قاله الزَّمَخْشَرِي{[8663]} وفيه نَظَرٌ ؛ إذ الظَّاهر أن " منهم " صِفَةٌ ل { قَلِيلاً } ، ومَتَى حمل القَلِيل على غَيْر الأشْخَاصِ ، يقلق هذا الترْكِيب ؛ إذ لا فَائِدَة حينئذٍ في ذكر " منهم " .
قال أبو علي الفَارِسي{[8664]} : الرَّفْع أقْيَس ، فإن مَعْنَى ما أتَى أحَدٌ إلا زَيْد ، [ وما أتَانِي إلا زَيْد ]{[8665]} واحِدٌ ؛ فكما اتَّفَقُوا في قَوْلِهِم : ما أتَاني إلا زَيْدٌ ، على الرَّفع ، وجب أن يكُون قَوْلهُم : ما أتَانِي أحَدٌ إلا زَيْدُ بِمَنْزِلَتِهِ .
قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } تقدم الكَلاَم على نَظِيره ، و " ما " في { مَا يُوعَظُونَ } [ موصولة ]{[8666]} اسميَّة .
والباء في : " بِهِ " يُحْتَمل أن تكُون المُعَدِّية دَخَلَتْ على الموعُوظ به [ والموعوظ به ]{[8667]} على هَذَا هو التَّكَالِيفُ من الأوَامِرِ والنَّوَاهِي ، وتُسَمَّى أوَامِر اللَّه [ تعالى ]{[8668]} ونَوَاهِيه مَوَاعِظ ؛ لأنها مقْتِرَنَةٌ بالوَعْد والوَعيد ، وأن تكون السَّبَبِيَّة ، والتقدير : ما يُوعَظُون بسببه أي : بسبب تَرْكِهِ ، ودلَّ على التَّرْكِ المحذوف قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } [ واسم " كان " ضمير عَائِدٌ على الفِعْل المفْهُومَ من قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } ] {[8669]} أي : لكَان فِعْل ما يُوعظون به ، و " خَيْراً " خبرها ، و " شَيئاً " تَمْييز ل " أشَدَّ " ، والمعْنَى : أشَدّ تَحْقِيقاً وتَصْديقاً لإيمانهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.