اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا} (66)

هذه الآيةِ مُتَّصِلَة بما تقدَّم من المُنَافِقِين ، وترغيب لَهُم في تَرْكِ النِّفَاقِ ، والمَعْنَى : أنَّا لو شَدَّدْنا التكلِيف على النَّاسِ ؛ نحو أن نأمُرَهُم بالقَتْلِ ، والخُرُوج عن الأوْطَانِ ، لَصَعُبَ ذلك عليهم ولما فَعَلَهُ إلا قَلِيلٌ ، وحينئذٍ يظهر كُفْرُهُم ، فلم نَفْعَلْ ذلك رَحْمَةً مِنَّا على عِبَادِنا ، بل اكْتَفَيْنَا بتكْلِيفِهِم في الأمُور السَّهْلَة ، فَلْيَقْبَلُوهَا ولْيَترُكُوا التَّمرُّد .

نزلت في ثَابت بن قَيْس بن شِمَاس ، نَاظَر يهُودِيَّا{[8648]} . فقال اليَهُودِيّ : إن مُوسَى أمَرَنا بقَتْلِ أنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا ذَلِك ، ومحمد يأمُرُكم بالقِتَال فتكْرَهُونَهُ . فقال ثابت بن قَيْس : لو أنَّ مُحَمَّداً أمَرَنِي بقَتْل نفسي ، لفَعَلْت ذلك فنزلت الآيةُ ، وهو من القَلِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ .

وقال الحسن ومُقاتِل : لماّ نَزَلَت هذه الآيةُ ، قال عُمَر ، وعمَّار بن يَاسِر ، وعبد لله بن مَسْعُود ، وناسٌ من أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليلُ : واللَّه لَوْ أمَرَنَا لفعلنا ، فالحَمْدُ للَّه الذي عَافَانا اللَّه ، فبلغ ذَلِك النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال " إنَّ مِنْ أمَّتِي لَرِجَالاً ، الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِهِم مِنَ الجِبَالِ الرَّواسِي " {[8649]} .

والضَّمِيرُ في قوله : { كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } فيه قولان :

الأوّل : قال ابن عبَّاسٍ ومُجَاهِد : إنه عَائِد إلى المُنَافِقين{[8650]} لأنه - تعالى - كَتَبَ على بَنِي إسرائيلَ أن يَقْتُلوا أنْفُسَهم ، وَكَتَب على المُهَاجِرِين أن يَخْرُجُوا من ديارِهم ، فقال : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا } على هؤلاءِ المُنَافِقِين القَتْل والخُرُوجَ ، ما فَعلهُ إلا قَلِيلٌ ريَاءً وسُمْعَة ، وهذا اخْتِيَار الأصَمِّ والقَفَّال .

[ القول ]{[8651]} الثاني : المراد : لو كَتَب اللَّه على النَّاسِ ما ذَكَر ، لم يَفْعَلْه إلا قَلِيلٌ منهم ، فَيَدْخُل فيه المُؤمِنُ والمُنَافِق .

قوله : { أَنِ اقْتُلُواْ } " أن " فيها وجهان :

أحدهما : أنها المُفَسِّرة ؛ لأنَّها أتت بعد ما هُو بمعنى القَوْلِ لا حَرُوفهِ ، وهو أظْهَر .

الثاني : أنها مَصْدَريَّة ، وما بَعْدَها من فِعْل الأمْرِ صِلَتُها ، وفيه إشْكَالٌ ؛ من حيث إنَّه إذا سُبك منها ومِمَّا بَعْدَها مَصْدرٌ ، فأتت للدَّلالةَ [ على الأمر ، ألا تَرَى أنَّك إذا قُلْتَ : كتَبْتُ إلَيْه أنْ قُمْ فيه من الدَّلالَةِ ]{[8652]} على طَلَبِ القِيَام بطريق الأمْرِ ، ما لا في قَوْلِك : كَتَبْتُ إليه القِيَام ، ولكنَّهمُ جَوَّزوُا ذلك واسْتَدَلُّوا بقولِهِم : كَتَبْتُ إليه بأن{[8653]} قُمْ . ووجه الدلالة : أن حَرْفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق .

وقرأ{[8654]} أبو عمرو : بكسر نُونِ " أن " وضَمّ واو " أو " ، قال الزَّجَّاج : ولست أعرف لِفَصْل{[8655]} أبي عَمْروٍ بين هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ خَاصيَّة{[8656]} إلاّ أن يَكُون رِوَايَةً .

وقال غيره : أمّا كَسْر النُّونِ ؛ فلأن الكَسْرَ هُو الأصْلُ في التِقَاء{[8657]} السَّاكِنَيْن ، وأما ضَمُّ الواو فللإتبَاعِ ؛ لأن الضَّمَّة في الواوِ أحسن{[8658]} ؛ لأنَّها تُشْبِه وَاوَ الضَّمِير ، نحو : { اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ } [ البقرة : 16 ] { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ }

[ البقرة : 237 ] وكَسَرَهُمَا حَمْزَة وعَاصِم ؛ لالْتِقَاء السَّاكِنَيْن ، وضَمَّهُمَا ابن كَثِير ، ونَافِع [ وابن عامر ]{[8659]} والكسائي ؛ للاتبَاعِ فيهما .

قوله { مَّا فَعَلُوهُ } . الهاء يُحْتَمَلُ أن تكُون ضمير مَصْدر { اقْتُلُواْ } ، أو { اخْرُجُواْ } أي : ما فَعَلُوا القَتْل ؛ أو ما فَعَلُوا الخُرُوج .

وقال فَخْر الدِّين الرَّازي{[8660]} : تعود إلى القَتْلِ والخُرُوج معاً ؛ لأنه الفِعْل جَنْسٌ وَاحِدٌ وإن اخْتَلَفَت ضُرُوبُه .

قال شهاب الدِّين : وهذا بَعيدٌ لنُبُوّ الصِّنَاعة عَنْهُ ، وأجَازَ أبو البقاء أن يَعُود على المكْتُوب ويَدُلُّ عليه : { كَتَبْنَا } .

قوله : " إلاَّ قليلٌ " رفْعُه من وَجْهَيْن :

أحدهما : أنه بَدَلٌ من فَاعِل { فَعَلُوهُ } وهو المخْتَار على النَّصْبِ ؛ لأن الكلام غير مُوجِبٍ .

الثاني : أنه مَعْطُوف على ذَلِكَ الضَّمِير المَرْفُوع ، و " إلاَّ " حَرْف عَطْفٍ ، وهذا رأي الكوفِيِّين .

وقرأ ابن عامر{[8661]} وجَماعة : { إلاَّ قَلِيلاً } بالنَّصْب ، وكذا هُو في مَصَاحِفِ أهْل الشَّامِ ، ومصْحَف أنس بن مَالِكٍ ، وفيه وَجْهَان :

أشهرهما : أنه نَصْبٌ على الاسْتِثْنَاء وإن كان الاخْتِيَار الرَّفع ؛ لأن المعنى موجُود [ معه كما هُو مَوْجُود ]{[8662]} مع النَّصْب ، ويزيد عليه بمُوَافَقَة اللَّفْظِ .

والثَّاني : أنه صِفَةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، تقديره : إلا فِعْلاً قليلاً ، قاله الزَّمَخْشَرِي{[8663]} وفيه نَظَرٌ ؛ إذ الظَّاهر أن " منهم " صِفَةٌ ل { قَلِيلاً } ، ومَتَى حمل القَلِيل على غَيْر الأشْخَاصِ ، يقلق هذا الترْكِيب ؛ إذ لا فَائِدَة حينئذٍ في ذكر " منهم " .

قال أبو علي الفَارِسي{[8664]} : الرَّفْع أقْيَس ، فإن مَعْنَى ما أتَى أحَدٌ إلا زَيْد ، [ وما أتَانِي إلا زَيْد ]{[8665]} واحِدٌ ؛ فكما اتَّفَقُوا في قَوْلِهِم : ما أتَاني إلا زَيْدٌ ، على الرَّفع ، وجب أن يكُون قَوْلهُم : ما أتَانِي أحَدٌ إلا زَيْدُ بِمَنْزِلَتِهِ .

قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } تقدم الكَلاَم على نَظِيره ، و " ما " في { مَا يُوعَظُونَ } [ موصولة ]{[8666]} اسميَّة .

والباء في : " بِهِ " يُحْتَمل أن تكُون المُعَدِّية دَخَلَتْ على الموعُوظ به [ والموعوظ به ]{[8667]} على هَذَا هو التَّكَالِيفُ من الأوَامِرِ والنَّوَاهِي ، وتُسَمَّى أوَامِر اللَّه [ تعالى ]{[8668]} ونَوَاهِيه مَوَاعِظ ؛ لأنها مقْتِرَنَةٌ بالوَعْد والوَعيد ، وأن تكون السَّبَبِيَّة ، والتقدير : ما يُوعَظُون بسببه أي : بسبب تَرْكِهِ ، ودلَّ على التَّرْكِ المحذوف قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } [ واسم " كان " ضمير عَائِدٌ على الفِعْل المفْهُومَ من قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ } ] {[8669]} أي : لكَان فِعْل ما يُوعظون به ، و " خَيْراً " خبرها ، و " شَيئاً " تَمْييز ل " أشَدَّ " ، والمعْنَى : أشَدّ تَحْقِيقاً وتَصْديقاً لإيمانهم .


[8648]:تقدم.
[8649]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/324) وعزاه لابن المنذر من طريق إسرائيل عن أبي إسحق عن زيد بن الحسن. وعزاه أيضا لابن أبي حاتم من طريق هشام عن الحسن. والبغوي 1/449.
[8650]:تقدم.
[8651]:سقط في أ.
[8652]:سقط في ب.
[8653]:في ب: أن.
[8654]:ينظر: السبعة 224، والحجة 3/167، وإعراب القراءات 1/134، وإتحاف 1/515.
[8655]:في ب: تعرف لفصل.
[8656]:في ب: خاصة.
[8657]:في ب: فلالتقاء.
[8658]:في ب: حسن.
[8659]:سقط في ب.
[8660]:ينظر: تفسير الرازي 10/134.
[8661]:ينظر: السبعة 235، والحجة 3/168، وحجة القراءات 206، 207، والعنوان 84، وإعراب القراءات 1/135، وشرح شعلة 340، وشرح الطيبة 4/207، وإتحاف 1/515.
[8662]:سقط في أ.
[8663]:ينظر: الكشاف 1/530.
[8664]:ينظر: تفسير الرازي 10/134.
[8665]:سقط في ب.
[8666]:سقط في ب.
[8667]:سقط في أ.
[8668]:سقط في ب.
[8669]:سقط في أ.