معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

قوله تعالى : { ودخل معه السجن فتيان } ، وهما غلامان كانا للريان بن الوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر ، أحدهما : خبازه وصاحب طعامه ، والآخر : ساقيه وصاحب شرابه . غضب الملك عليهما فحبسهما . وكان السبب فيه : أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله ، فضمنوا لهذين مالا ، ليسما الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم ، ثم إن الساقي نكل عنه ، وقبل الخباز الرشوة فسم الطعام ، فلما أحضر الطعام والشراب . قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم ، وقال الخباز لا تشرب فإن الشراب مسموم . فقال الملك للساقي : اشرب فشربه فلم يضره ، وقال للخباز : كل من طعامك ، فأبى فجرب ذلك الطعام على دابة فأكلته فهلكت ، فأمر الملك بحبسهما . وكان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام ، فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلم فلنجرب هذا العبد العبراني ، فتراءيا له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا ، قال ابن مسعود ما رأيا شيئا وإنما تحالما ليجربا يوسف . وقال قوم : بل كانا رأيا حقيقة ، فرآهما يوسف وهما مهمومان ، فسألهما عن شأنهما ، فذكرا أنهما صاحبا الملك ، حبسهما ، وقد رأيا رؤيا غمتهما . فقال يوسف : قصا علي ما رأيتما ، فقصا عليه . { قال أحدهما } ، وهو صاحب الشراب ، { إني أراني أعصر خمرا } ، أي : عنبا ، سمي العنب خمرا باسم ما يؤول إليه ، كما يقال : فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن للآجر . وقيل : الخمر العنب بلغة عمان ، وذلك أنه قال : إني رأيت كأني في بستان ، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاث عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه ، وسقيت الملك فشربه . { وقال الآخر } ، وهو الخباز : { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } ، وذلك أنه قال : إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه . { نبئنا بتأويله } ، أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا . { إنا نراك من المحسنين } ، أي : العالمين بعبارة الرؤيا ، والإحسان بمعنى العلم . وروي أن الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله : { إنا نراك من المحسنين } ، ما كان إحسانه ؟ قال : كان إذا مرض إنسان في السجن عاده وقام عليه ، وإذا ضاق عليه المجلس وسع له ، وإذا احتاج إلى شيء جمع له شيئا ، وكان مع هذا يجتهد في العبادة ، ويقوم الليل كله للصلاة . وقيل : إنه لما دخل السجن وجد فيه قوما قد اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يسليهم ويقول : أبشروا واصبروا تؤجروا ، فيقولون : بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك ، لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم ، فقال له عامل السجن : يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ، ولكن سأحسن جوارك فتمكن في أي بيوت السجن حيث شئت . وروي أن الفتيين لما رأيا يوسف قالا له : لقد أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما يوسف : أنشدكما بالله أن لا تحباني ، فوالله ما أ حبني أحد قط إلا دخل علي من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل علي بلاء ، ثم أحببني أبي فألقيت في الجب ، وأحبتني امرأة العزيز فحبست . فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره في إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

قال قتادة : كان أحدهما ساقي الملك ، والآخر خبازه .

قال محمد بن إسحاق : كان اسم الذي على الشراب " نبوا " ، والآخر " مجلث " .

قال السدي : وكان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالآ على سمه في طعامه وشرابه .

وكان{[15164]} يوسف ، عليه السلام ، قد اشتهر في السجن بالجود{[15165]} والأمانة وصدق الحديث ، وحسن السّمت وكثرة العبادة ، صلوات الله عليه وسلامه ، ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن وعيادة

مرضاهم والقيام بحقوقهم . ولما دخل هذان{[15166]} الفتيان إلى السجن ، تآلفا به وأحباه حبا شديدا ، وقالا له : والله لقد أحببناك حبا زائدا . قال{[15167]} بارك الله فيكما ، إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من محبته ضرر ، أحبتني عمتي فدخل علي الضرر بسببها ، وأحبني أبي فأوذيت بسببه ، وأحبتني امرأة العزيز فكذلك ، فقالا والله ما نستطيع إلا ذلك ، ثم إنهما رأيا مناما ، فرأى الساقي أنه يعصر خمرا - يعني عنبا - وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : " إني أراني أعصر عنبا " . ورواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن سِنَان ، عن يزيد بن هارون ، عن شَرِيك ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود : أنه قرأها : " أعصر عنبا " .

وقال الضحاك في قوله : { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } يعني : عنبا . قال : وأهل عمان يسمُّون العنب خمرا .

وقال عكرمة : رأيت{[15168]} فيما يرى النائم أني غرست حَبَلة من عنب ، فنبتت . فخرج فيه عناقيد ، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك . قال{[15169]} تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج فتسقيه خمرا .

وقال الآخر - وهو الخباز - : { إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }

والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه ، وأنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، إنما كانا تحالما ليجربا عليه .


[15164]:- في ت : "فكان".
[15165]:- في أ : "بالجودة".
[15166]:- في ت : "هذا".
[15167]:- في ت ، أ : "فقال".
[15168]:- في ت : "وقال عكرمة : قال له رأيت".
[15169]:- في ت ، أ : "فقال".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

وقوله تعالى : { ودخل معه السجن } الآية ، المعنى : فسجنوه فدخل معه السجن غلامان سجنا أيضاً ، وهذه «مع » تحتمل أن تكون باقتران وقت الدخول ، وأن لا تكون بل دخلوا أفذاذاً{[6680]} ، وروي أنهما كانا للملك الأعظم - الوليد بن الريان - أحدهما : خبازه ، والآخر : ساقيه .

و «الفتى » الشاب ، وقد تقع اللفظة على المملوك وعلى الخادم الحر ، ويحتمل أن يتصف هذان بجميع ذلك ، واللفظة من ذوات الياء ، وقولهم : الفتوة شاذ . وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ، ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما ، قاله السدي ، فلما دخل يوسف السجن استمال الناس فيه بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزماه ، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه ، وقال له : كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله ، فلقد أدخلت علي المحبة مضرات : أحبتني عمتي فامتحنت لمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت لمحبته لي ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت لمحبتها بما ترى ، وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد ، فروي عن ابن مسعود أن الفتيين استعملا هاتين المنامتين ليجرباه ؛ وروى عم مجاهد أنهما رأيا ذلك حقيقة ، فأرادا سؤاله ، فقال أحدهما واسمه بنو ، فيما روي{[6681]} ، إني رأيت حبلة{[6682]} من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك ؛ وقال الآخر ، واسمه مجلث ، كنت أرى أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز ، والطير تأكل من أعلاه .

وقوله { أعصر خمراً } قيل : إنه سمى العنب خمراً بالمآل ، وقيل : هي لغة أزد عمان ، يسمون العنب خمراً ، وقال الأصمعي : حدثني المعتمر ، قال : لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت : ما تحمل ؟ قال : خمراً ، أراد العنب .

وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «إني أراني أعصر عنباً »{[6683]} .

قال القاضي أبو محمد : ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها وقوله { خبزاً } يروى أنه رأى ثريداً فوق رأسه ، وفي مصحف ابن مسعود «فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه » .

وقوله { إنا نراك من المحسنين } قال الجمهور : يريدان في العلم ، وقال الضحاك وقتادة : المعنى : { من المحسنين } في جريه مع أهل السجن وإجماله معهم ، وقيل : إنه أراد إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً إذا تأول لهما ما رأياه ، ونحا إليه ابن إسحاق .


[6680]:أي: أفرادا، وهو جمع فذ.
[6681]:في تفسير الطبري أثبتت "نبو" بتقديم النون على الباء، وفي تفسير القرطبي "نبوه" بزيادة هاء.
[6682]:الحبلة بفتح الحاء والباء، وربما جاءت الباء ساكنة: القضيب من الكرم، والجمع حبل، وفي "النهاية": أم العنب، وفي الحديث: (لا تقولوا: العنب الكرم، ولكن قولوا: العنب الحبلة).
[6683]:قال أبو الفتح ابن جني: "هذه القراءة هي مراد قراءة الجماعة: {إني أراني أعصر خمرا}، وذلك أن المعصور حينئذ هو العنب، فسماه خمرا لما يصير إليه من بعد حكاية لحاله المستأنفة، كقول الشاعرـ يريد أبا المهوش الأسدي، أو يزيد بن عمر بن الصعق ـ : إذا ما مات ميت من تميـــــــــم فسرك أن يعيش فجىء بزاد يريد: إذا مات حي فصار ميتا كان كذا، أو فليكن كذا.