الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

قوله تعالى : " ودخل معه السجن فتيان " " فتيان " تثنية فتى ، وهو من ذوات الياء ، وقولهم : الفتو شاذ{[9108]} . قال وهب وغيره : حمل يوسف إلى السجن مقيدا على حمار ، وطيف به " هذا جزاء من يعصي سيدته " وهو يقول : هذا أيسر من مقطعات{[9109]} النيران ، وسرابيل القطران ، وشراب الحميم ، وأكل الزقوم . فلما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم ، واشتد بلاؤهم ، فجعل يقول لهم : اصبروا وابشروا تؤجروا ، فقالوا له : يا فتى ! ما أحسن حديثك ! لقد بورك لنا في جوارك ، من أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ، ابن ذبيح{[9110]} الله إسحاق ، ابن خليل الله إبراهيم . وقال ابن عباس : لما قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني ، وأنا أريد أن تسجنه ، فسجنه في السجن ، فكان يعزي فيه الحزين ، ويعود فيه المريض ، ويداوي فيه الجريح ، ويصلي الليل كله ، ويبكي حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها والأبواب ، وطهر به السجن ، واستأنس به أهل السجن ، فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس{[9111]} في السجن مع يوسف ، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه ، ثم قال له{[9112]} : يا يوسف ! لقد أحببتك . حبا لم أحب شيئا حبك ، فقال : أعوذ بالله من حبك ، قال : ولم ذلك ؟ فقال : أحبني أبي ففعل بي إخوتي ما فعلوه ، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى ، فكان في حبسه حتى غضب الملك على خبازه وصاحب شرابه ، وذلك أن الملك عمر فيهم فملوه ، فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه جميعا ، فأجاب الخباز وأبى صاحب الشراب ، فانطلق صاحب الشراب فأخبر الملك بذلك ، فأمر الملك بحبسهما ، فاستأنسا بيوسف ، فذلك قوله : " ودخل معه السجن فتيان " وقد قيل : إن الخباز وضع السم في الطعام ، فلما حضر الطعام قال الساقي : أيها الملك ! لا تأكل فإن الطعام مسموم . وقال الخباز : أيها{[9113]} الملك لا تشرب ! فإن الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشرب ! فشرب فلم يضره ، وقال للخباز : كل فأبى ، فجرب الطعام على حيوان فنَفَقَ مكانَه ، فحبسهما سنة ، وبقيا في السجن تلك المدة مع يوسف . واسم الساقي منجا ، والآخر مجلث ، ذكره الثعلبي عن كعب . وقال النقاش : اسم أحدهما شرهم ، والآخر سرهم ، الأول ، بالشين المعجمة ، والآخر بالسين المهملة . وقال الطبري : الذي رأى أنه يعصر خمرا هو نبو ، قال السهيلي : وذكر اسم الآخر ولم أقيده . وقال " فتيان " لأنهما كانا عبدين ، والعبد يسمى فتى ، صغيرا كان أو كبيرا ، ذكره الماوردي . وقال القشيري : ولعل الفتى كان اسما للعبد في عرفهم ؛ ولهذا قال : " تراود فتاها عن نفسه " [ يوسف : 30 ] . ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا . ويمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله ، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه . " قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله " " قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا " أي عنبا ، كان يوسف قال لأهل السجن . إني أعبر الأحلام ، فقال أحد الفتيين لصاحبه : تعال حتى نجرب هذا العبد العبراني ، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا ، قاله ابن مسعود . وحكى الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال : إني أعبر الرؤيا ، فسألاه عن رؤياهما . قال ابن عباس ومجاهد : كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها ، ولذلك صدق تأويلها . وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ) . وقيل : إنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجريبا ، وهذا قول ابن مسعود والسدي . وقيل : إن المصلوب منهما كان كاذبا ، والآخر صادقا ، قاله أبو مجلز . وروى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : ( من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين [ ولن يعقد بينهما ]{[9114]} ) . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة ) . قال : حديث حسن . قال ابن عباس : لما رأيا رؤياهما أصبحا مكروبين ، فقال لهما يوسف : مالي أراكما مكروبين ؟ قالا : يا سيدنا ! إنا رأينا ما كرهنا ، قال : فقصا علي ، فقصا عليه ، قالا : نبئنا بتأويل ما رأينا ، وهذا يدل على أنها كانت رؤيا منام . " إنا نراك من المحسنين " فإحسانه ، أنه كان يعود المرضى ويداويهم ، ويعزي الحزانى ، قال الضحاك : كان إذا مرض الرجل من أهل السجن قام به ، وإذا ضاق وسع له ، وإذا احتاج جمع له ، وسأل له . وقيل : " من المحسنين " أي العالمين الذين أحسنوا العلم ، قاله الفراء . وقال ابن إسحاق : " من المحسنين " لنا إن فسرته ، كما يقول : افعل كذا وأنت محسن . قال : فما رأيتما ؟ قال الخباز : رأيت كأني اختبزت في ثلاثة تنانير ، وجعلته في ثلاث سلال ، فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منه . وقال الآخر : رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض ، فعصرتهن في ثلاث أوان ، ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى ، فذلك قوله : " إني أراني أعصر خمرا " أي عنبا ، بلغة عمان ، قاله الضحاك . وقرأ ابن مسعود : " إني أراني أعصر عنبا " . وقال الأصمعي : أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيا ومعه عنب فقال له : ما معك ؟ قال : خمر . وقيل : معنى . " أعصر خمرا " أي عنب خمر ، فحذف المضاف . ويقال : خَمْرة وخَمْر وخُمُور ، مثل تمرة وتمر وتمور .


[9108]:في ع و ك و ي: الفتوة شاذة.
[9109]:مقطعات النيران: هي على نحو قوله تعالى: "قطعت لهم ثياب من نار" أي خيطت وسويت وجعلت لبوسا لهم.
[9110]:هذا دليل الوضع لأن الذبيح قطعا إسماعيل عليه السلام.
[9111]:في ع: يحبس.
[9112]:من ع.
[9113]:من ع.
[9114]:الزيادة عن صحيح الترمذي، قال شارحه: لما تبعته نظري ظهر إلى أن المخبر بما لم ير عقد من الكلام عقدا باطلا لم يشعر به. أي لم يعلمه، فقيل له: اعقد بين شعيرتين ولا ينعقد له ذلك أبدا، عقوبة لعقده بين كلمات لم يكن منها شيء، لتكون العقوبة من جنس المعصية.