قوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ } يوسف : 36 ] قيل : هما غُلامانِ للملك الأكبر بمصر :
أحدهما : خَبَّازٌ ، صاحبُ طعامه .
والآخر : صاحبُ شَرابه ، غضب الملكُ عليهما فحَبسَهُما .
قوله : " قَالَ أحَدهُمَا " : مُسْتأنفٌ لا محلَّ له ، ولا يجوز أن يكون حالاً ؛ لأنهما لم يقولا ذلك حال الدُّخولِ ، ولا جائزٌ أن تكون مقدَّرة ؛ لأنَّ الدخول لا يَئُولُ إلى الرؤيا ، و " إنِّي " وما في حيِّزه : في محل نصبٍ بالقول .
و " أَرَانِي " : مُتعدِّيةٌ لمفعولين عند بعضهم ؛ إجراءً للحلمية مجرى العلمية ؛ فتكون الجملة من قوله : " أعْصِرُ " في محلِّ المفعول الثاني ، ومن منع ، كانت عنده في محلِّ الحالِ .
وجرت الحلمية مجرى العلمية أيضاً في اتحاد فاعلها ، ومفعولها ضميرين متَّصلين ؛ ومنه الآيةٌ الكريمةُ ؛ فإنَّ الفاعل المفعول مُتَّحدانِ في المعنى ؛ إذ هما للمتكلِّم ، وهما ضميران متصلان ، ومثله : رأيتك في المنام قائماً ، وزيدٌ رآه قائماً ، ولا للمتكلِّم ، وهما ضميران متصلان ، ومثله : رأيتك في المنام قائماً ، وزيدٌ رآه قائماًن ولا يجوزُ ذلك في غير ما ذكر .
لا تقول : " أكْرَمتُنِي " ، ولا " أكرمتَك " ، ولا " زيدٌ أكْرمَهُ " ؛ فإ ، أردت بذلك ، قل : أكْرمْتُ نَفْسِي ، أو إيَّاي ونفسكَ ، أوْ [ أكْرَمْتَ ] إيَّاك ونفسهُ ، وقَدْ تقدَّم تحقيق ذلك .
وإذا دخلت همزةٌ النقل على هذه الحلمية ، تعدت لثالثٍ ، وتقدم هذا في قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً } [ الأنفال : 42 ] .
والخَمْرُ : العِنَبُ ، أطلق عليه ذلك ؛ مجازاً ؛ لأنه آيلٌ إليه ؛ كما يطلق الشيء على الشيء ؛ باعتبار ما كان عليه ؛ كقوله { وَآتُواْ اليتامى } [ النساء : 2 ] ، ومجاز هذا أقربُ ، وقيل : بل الخَمْرُ : العِنَبُ حقيقةً في لغةِ غسَّانٍ ، وإزْدِ عمان .
وعن المُعْتَمر : لقيتُ أعْرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ ، فقلتُ : ما تحمل ؟ قال : خَمْراً .
وقراءة " أبيَّ " ، وعبدالله : " أعْصِرُ عِنَباً " ، لا تدلُّ على الترادف ؛ لإرداتهما ؛ لإرادتهما التفسير ، لا التلاوة ، وهذا كما في مصحف عبدالله : " فَوْقَ رأسِي ثَرِيداً " ، فإنه اراد التَّفسيرَ فقط .
و " تَأكُلُ الطَّيْرُ " : صفةٌ ل " خُبْزاً " ، و " فَوْقَ " يجوز أن يكون ظرفاً للحملِ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ ، حالاً من " خُبْزاً " إلاّ أنه في الأصل صفة له ، والضمير في قوله " نَبِّئْنَا بِتَأويلهِ " : قال أبو حيَّان : " عائدٌ على ما قَصَّا عليه ، أجري مُجْرَى اسم الإشارةِ ؛ كأنَّه قيل : تأويله ما رَأيْتَ " .
وقد سبقه إليه الزمخشريُّ ، وجعله سُؤالاً ، وجواباً ، وقال اغيره : إنَّما واحد الضمير ؛ لأن كلَّ واحدٍ سأل عن رُؤياه ؛ وكأن كلَّ واحد منهما قال : نبئنا مارأيتُ .
و " تُرْزَقانِهِ " صفةٌ ل " طَعَامٌ " ، وقوله " إلاَّ نَبَّأتُكُمَا " : استثناء مفرَّغٌ ، وفي موضِ الجملة بعدها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وساغ ذلك من النكرةِ ؛ لتخصُهصا بالوصف .
الثاني : أن تكون في محلِّ رفعٍ ؛ نعتاً ثانياً ل " طَعَامٌ " .
والتدقير : لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه مُنَبَّاً بتأويله ، أو مُنَبَّاٌ بتأويله ، و " قَبْلَ : الظاهرُ أنَّها ظرفٌ ل " نَبَّأتُكُما " ، ويجوز أن يتعلق بتأويله ، أي : نبأتكما بتأويله الواقع قبل إتيانه .
قيل : إنَّ جماعة من أهل مصر ، أرادوا المكر بالملك ، فَضَمِنُوا لهذين الرجلين مالاً ، ليَسُمَّا الملك في طعامه ، وشرابه ، فأجابهم ، ثمَّ إن الساقي نكل عنه ، وقبل الخبازُ الرشوة فسمَّ الطَّعام ، فلما أحضروا الطعام ، قال السَّاقي : لا تأكلْ أيُّها الملك ؛ فإنَّ الطعام مسمومٌ ، وقال الخبَّازُ : لا تشربْ أيها الملكُ ؛ فإنَّ الشراب مسمومٌ ، فقال الملك للساقي : اشربْ ، فشربهُ فلم يضرُّه ، وقال للخبَّاز : كل من طعامك ، فأبى ، فجرَّب ذلك الطعام على دابَّة ، فأكلتهُ : فهلكتْ ؛ فأمر الملك بحبسهما .
وكان يوسف حين دخل السِّجن ، جعل ينشر عمله ، ويقول : إنِّي أعبِّر الأحلام ، فقال أحدٌ الفتين لصاحبه : هلُمَّ فلنجرب هذا العبد العبرانيِّ ، فتراءيا له ، فسألاه من غير أن يكون رأياً شيئاً .
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : " مَا رَأيَا شَيْئاً وإنَّما تَحالَمَا ليُجَرِّبَا يُوسفَ " عليه السلام .
وقيل : بل رأيا حقيقة ، فرآهما يوسف عليه الصلاة والسلام وهما مهمومان ، فسألهما عن شأنهما ، فكذرا أنَّهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤية همَّتهما ، فقال يوسف صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء والمرسلين : قُصَّا عليَّ ما رأيتما ! فقصَّا عليهن فعبَّر لهما ما رأياهُ ، وعرف حرفة كلِّ واحدٍ من منامه .
وتأويلُ الشَّيء : ما يرجعُ إليه ، وهو الذي يَئُولُ إليه آخرُ ذلك الأمر .
ثم قالا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } : في أمر الدين ، أي : نراك تُؤثِرُ الإحسانَ ، وتأتي مكارمَ الأخلاق .
وقيل : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } في علم التعبير ؛ وذلك أنَّه حين عبَّر لم يخطىء .
[ وقيل : إنه كان يعود مرضاهم ويوقّر كبيرهم ، فقالوا إنَّا لنراك من المحسنين في حقّ الأصحاب ] .
وحقيقة علم التَّعبير : أنه تعالى خلق جوهر النَّفس الناطقة ، بحيث يمكنها الصعودُ إلى عالم الأفلاكِ ، ومطالعةُ اللَّوحِ المحفوظِ ، والمانعُ لها من ذلك : اشتغالها بتدبير البدنِ ، فوقت يقلُّ هذا الاشتغال ، يقوى على هذه المطالعة ، فإن وقعت على حالةٍ من الأحوال ، ترك آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراكِ الرَّوحاني ، إلى علم الخيال ، فالمعبِّر يستدلُّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيَّة .
قال صلوات الله وسلامه عليه : " الرُّؤيَا ثلاثةٌ : رُؤيَا ما يُحدِّثُ الرَّجلُ بِهِ نفسهُ ، ورُؤيَا تحدثُ من الشَّيطانِ ، ورُؤيَا جُزءٌ مِنْ ستَّةٍ وأرْبَعينَ جُزْءاً مِنَ النُّبوَّةِ " .
في قوله يوسف ما أحد قط الإ دخل عليّ من حبه بلاء ، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له : رُويَ أنَّ الفتيين لمَّا رأيا يُوسُفَ ، قالا : لقد أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما يوسفُ : ناشدتكما ، لا تُحِبَّاني ؛ فواللهِ ما أحبَّنِي أحدٌ قط ؛ إلاَّ دخل عليَّ مِنْ حبِّه بلاءٌ ، لقد أحَبَّتْنِي عمَّتي ، فدخل عليَّ بلاءٌ ، ثم أحبَّني أبِي ، فألقيتُ في الجبِّ ، وأحبَّتْنِي امرأةُ العزيز ، فحُبِسْتُ .
فلما قصَّا عليه الرؤية ، كره يوسفُ أن يعبِّر لهما ما سألاه ، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما ، وأخذ في غيره ، من إظهار المعجزة ، والدُّعاءِ إلى التَّوحيدِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.