البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجۡنَ فَتَيَانِۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡرٗاۖ وَقَالَ ٱلۡأٓخَرُ إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزٗا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (36)

عصر العنب وغيره أخرج ما فيه من المائع بقوة .

الخبر : معروف ، وجمعه اخباز ، ومعانيه خباز .

{ ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } : في الكلام حذف تقديره : فسجنوه ، فدخل معه السجن غلامان .

وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان ، أحدهما خبازه ، والآخر ساقيه .

وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي ، فسجنهما قاله : السدي .

ومع تدل على الصحبة واستحداثها ، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة .

ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله ، وكان يسلي حزينهم ، ويعود مريضهم ، ويسال لفقيرهم ، ويندبهم إلى الخير ، فأحبه الفتيان ولزماه ، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وقال له : كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله ، فلقد أدخلت على المحبة مضرات ، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها ، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته ، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى .

وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد .

وروي أن الفتيين قالا له : إنا لنحبك من حين رأيناك فقال : أنشدكما الله أنْ لا تحباني ، وذكر ما تقدم .

وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم ، فجعل يقول : اصبروا وابشروا تؤجروا إن لهذا لأجراً فقالوا : بارك الله عليك ، ما أحسن وجهك ، وما أحسن خلقك ! لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال يوسف : ابن صفي الله يعقوب ، ابن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله ابراهيم .

فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك .

وهذه الرؤيا التي للفتيين قال مجاهد : رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله .

وقال ابن مسعود والشعبي : استعملاها ليجرباه .

والذي رأى عصر الخمر اسمه بنو قال : رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان ، فيها عناقيد عنب حسان ، فكنت أعصرها وأسقي الملك .

والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال : كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز ، والطير تأكل من أعلاه ، ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى ، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن ، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل ، وكلاهما لمدلول واحد .

ولا يجوز أن يقول : اضربني ولا أكرمني .

وسمى العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه .

وقيل : الخمر بلغة غسان اسم العنب .

وقيل : في لغة ازد عمان .

وقال المعتمر : لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت : ما تحمل ؟ قال : خمراً ، أراد العنب .

وقرأ أبي وعبد الله : أعصر عنباً ، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف ، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمراً .

قال ابن عطية : ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة ، إذ العصر لها ومن أجلها .

وفي مصحف عبد الله : فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه ، وهو أيضاً تفسير لا قراءة .

والضمير في تأويله عائداً إلى ما قصا عليه ، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : بتأويل ذلك .

وقال الجمهور : من المحسنين أي في العلم ، لأنهما رأيا منه ما علما به أنه عالم .

وقال الضحاك وقتادة : من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم .

وقال ابن إسحاق : أرادا إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً ، إذا تأول لهما ما رأياه .