معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا} (21)

قوله عز وجل : { وكذلك أعثرنا } أي : أطلعنا { عليهم } يقال : عثرت على الشيء : إذا اطلعت عليه ، وأعثرت غيري أي : أطلعته ، { ليعلموا أن وعد الله حق } يعني قوم بيدروس الذين أنكروا البعث ، { وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم } ، قال ابن عباس : يتنازعون في البنيان ، فقال : المسلمون : نبني عليهم مسجداً يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا ، وقال المشركون : نبني عليهم بنياناً لأنهم من أهل نسبنا . وقال عكرمة : تنازعوا في البعث ، فقال المسلمون : البعث للأجساد والأرواح معاً ، وقال قوم : للأرواح دون الأجساد ، فبعثهم الله تعالى وأراهم أن البعث للأجساد والأرواح . وقيل : تنازعوا في مدة لبثهم . وقيل : في عددهم . { فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم } ، بيدروس الملك وأصحابه ، { لنتخذن عليهم مسجداً* } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا} (21)

يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي : أطلعنا عليهم الناس { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا }

ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة . وقال عكرمة : كان منهم طائفة قد قالوا : تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد . فبعث الله أهل الكهف حجة{[18063]} ودلالة وآية على ذلك .

وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة ، في شراء شيء لهم ليأكلوه ، تنكر وخرج يمشي في غير الجادة ، حتى انتهى إلى المدينة ، وذكروا أن اسمها دقسوس{[18064]} وهو يظن أنه قريب العهد بها ، وكان الناس قد تبدلوا قرنًا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وأمة بعد أمة ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، كما قال الشاعر :

أما الدّيارُ فَإنَّها كَديارهِم *** وَأرَى رجالَ الحَي غَيْرَ رجَاله

فجعل لا يرى شيئًا من معالم البلد التي يعرفها ، ولا يعرف أحدًا من أهلها ، لا{[18065]} خواصها ولا عوامها ، فجعل يتحير في نفسه ويقول : لعل بي جنونًا أو مسًا ، أو أنا حالم ، ويقول : والله ما بي شيء{[18066]} من ذلك ، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة . ثم قال : إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي . ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام ، فدفع إليه ما معه من النفقة ، وسأله أن يبيعه بها طعامًا . فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضَرْبها ، فدفعها إلى جاره ، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون : لعل هذا قد وجد كنزا . فسألوه عن أمره ، ومن أين له هذه النفقة ؟ لعله وجدها من كنز . ومن أنت ؟ فجعل يقول : أنا من أهل هذه المدينة{[18067]} وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس . فنسبوه إلى الجنون ، فحملوه إلى وليّ أمرهم ، فسأله عن شأنه وعن أمره حتى أخبرهم بأمره ، وهو متحير في حاله ، وما هو فيه . فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف : مُتَوَلّى البلد وأهلها ، حتى انتهى بهم إلى الكهف ، فقال : دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي ،

فيقال : إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه ، وأخفى الله عليهم خبره{[18068]} ويقال : بل دخلوا عليهم ، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم ، وكان مسلمًا فيما قيل ، واسمه تيدوسيس{[18069]} ففرحوا به وآنسوه بالكلام ، ثم ودعوه{[18070]} وسلموا عليه ، وعادوا إلى مضاجعهم ، وتوفاهم الله ، عز وجل ، فالله أعلم .

قال قتادة : غزا{[18071]} ابن عباس مع حبيب بن مسلمة ، فمروا بكهف في بلاد الروم ، فرأوا فيه عظامًا ، فقال قائل : هذه عظام أهل الكهف ؟ فقال ابن عباس : لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة . رواه ابن جرير .

وقوله : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ }{[18072]} أي : كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم ، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } أي : في أمر القيامة ، فمن مثبت لها ومن منكر ، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } أي : سدوا عليهم باب كهفهم ، وذروهم على حالهم { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }

حكى ابن جرير في القائلين{[18073]} ذلك قولين : أحدهما : إنهم المسلمون منهم . والثاني : أهل الشرك منهم ، فالله أعلم{[18074]}

والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ . ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " {[18075]} يحذر ما فعلوا . وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق ، أمر أن يخفى عن الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده ، فيها شيء من الملاحم وغيرها .


[18063]:في ت: "وحجة".
[18064]:في ت: "دقوس".
[18065]:في ت، ف: "ولا".
[18066]:في ت: "شتى".
[18067]:في ت: "النفقة".
[18068]:في ت، ف: "خبرهم".
[18069]:في ت: "تيدرسين"، وفي ف: "بيدوسيس".
[18070]:في ت، ف: "دعوه".
[18071]:في ت: "وعن".
[18072]:في ت: "وعن".
[18073]:في ت: "القائل".
[18074]:في ت: "والله أعلم".
[18075]:رواه البخاري في صحيحه برقم (1330) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا} (21)

الإشارة بذلك في قوله { وكذلك } إلى { بعثناهم ليتساءلوا } [ الكهف : 19 ] أي كما بعثناهم { أعثرنا عليهم } ، و «أعثر » تعدية بالهمزة ، وأصل العثار في القدم ، فلما كان العاثر في الشيء منتبهاً له شبه به من تنبه لعلم شيء عن له وثار بعد خفائه ، والضمير في قوله { ليعلموا } يحتمل أن يعود على الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم ، وإلى هذا ذهب الطبري ، وذلك أنهم ، فيما روي ، دخلتهم حينئذ فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه ، وقالوا إنما تحشر الأرواح ، فشق على ملكهم ذلك وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم ، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد ، وتضرع إلى الله في حجة وبيان ، فأعثر الله على أهل الكهف ، فلما بعثهم الله ، وتبين الناس أمرهم ، سر الملك ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين به ، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } على هذا التأويل ، ويحتمل أن يعمل في { أن } على هذا التأويل ، { أعثرنا } ، ويحتمل أن يعمل فيه { ليعلموا } ، والضمير في قوله { ليعلموا } يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف ، أي جعل الله أمرهم آية لهم دالة على بعث الأجساد من القبور ، وقوله { إذ يتنازعون } على هذا التأويل ابتداء خبر عن القوم الذين بعثوا على عهدهم ، والعامل في { إذ } ، فعل مضمر تقديره واذكر ، ويحتمل أن يعمل فيه { فقالوا } { إذ يتنازعون } { ابنوا عليهم } . والتنازع على هذا التأويل ، إنما هو في أمر البناء أو المسجد ، لا في أمر القيامة ، و «الريب » : الشك ، والمعنى أن الساعة في نفسها وحقيقتها لا شك فيها ، وإن كان الشك قد وقع لناس ، فذلك لا يلحقها منه شيء ، وقيل إن التنازع إنما هو في أن اطلعوا عليهم فقال بعض هم أموات ، وبعض هم أحياء ، وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم ، وتركهم فيه مغيبين ، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر : لنتخذن عليهم مسجداً ، فاتخذوه ، وقال قتادة { الذين غلبوا } هم الولاة ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي : «غُلِبوا » بضم الغين وكسر اللام ، والمعنى أن الطائفة التي أرادت المسجد كانت أولاً تريد أن لا يبنى عليهم شيء ، وأن لا يعرض لموضعهم ، فروي أن طائفة أخرى مؤمنة أرادت ولا بد طمس الكهف ، فلما غلبت الأولى على أن يكون بنيان لا بد ، قالت يكون مسجداً ، فكان ، وروي أن الطائفة التي دعت إلى البنيان ، إنما كانت كافرة ، أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم ، فمانعهم المؤمنون ، وقالوا { لنتخذن عليهم مسجداً } ، وروي عن عبيد بن عمير أن الله عمى على الناس حينئذ أثرهم ، وحجبهم عنهم ، فلذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلماً لهم .