السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا} (21)

{ وكذلك } ، أي : ومثل ما فعلنا بهم ذلك الأمر العظيم من الربط على قلوبهم والستر والحماية من الطالبين لهم والحفظ لأجسادهم على ممرّ الزمان وتعاقب الحدثان وغير ذلك { أعثرنا } ، أي : أطلعنا غيرهم { عليهم } يقال عثرت على كذا علمته وأصله أنّ من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه فكان العثر سبباً لحصول العلم فأطلق السبب على السبب بقوله تعالى : { ليعلموا } متعلق بأعثرنا والضمير قيل يعود على مفعول أعثرنا المحذوف تقديره أعثرنا الناس وقيل يعود إلى أهل الكهف وهذا هو الظاهر { أنّ وعد الله } الذي له صفات الكمال بالبعث للروح والجثة معاً { حق } لأنّ قيامهم بعد نومهم يتقلبون نيفاً وثلاثمائة سنة مثل من مات ثم بعث .

قال بعض العارفين : علامة اليقظة بعد النوم علامة البعث بعد الموت . ولما كان من الحق ما قد يداخله شك قال تعالى : { وأنّ } ، أي : وليعلموا أنّ { الساعة } ، أي : آتية { لا ريب } ، أي : لا شك { فيها } .

تنبيه : اختلف في السبب الذي عرف الناس واقعة أصحاب الكهف ، فقال محمد بن إسحاق : إنّ ملك تلك البلاد رجل صالح يقال له تندوسيس ، فلما ملك بقي في ملكه ثمانية وستين سنة فتحزب الناس في مملكته فكانوا أحزاباً ؛ منهم من يؤمن بالله ويعلم أنّ الساعة حق ، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرّع إلى الله تعالى وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون : لا حياة إلا الدنيا وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد ، وجعل الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيراً وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه ، وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يخرجون الناس عن الحق وملة الحواريين ، فلما رأى ذلك الملك دخل بيته وأغلق بابه عليه ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً ، فجلس عليه ودأب ليله ونهاره زماناً يتضرّع إلى الله تعالى ويبكي ، أي : رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم .

ثم إنّ الله تعالى الذي يكره هلكة عباده أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، ويستجيب لعبده تندوسيس ويتم نعمته عليه ، وأن يجمع من كان تبدّد من المؤمنين وألقى الله في نفس رجل من تلك البلد الذي فيه الكهف أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف ، فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة حتى إذا نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف أذن الله تعالى ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهري الكهف فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون لها إذا أصبحوا من ليلتهم ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا في ألوانهم شيء يكرهونه كهيئتم حين رقدوا وهم يرون أنّ ملكهم دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم ائتنا بما قال الناس في شأننا عشية أمس عند الجبار وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد تخيل لهم أنهم قد ناموا أطول ما كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياماً ؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم .

قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ، وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم تمليخا : ألتمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكلمينا : يا إخواتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدوّ الله ثم قالوا لتمليخا انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها وما الذي يذكر عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرنّ بك أحداً وابتع لنا طعاماً وائتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا جياعاً ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مرّ ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصدّ عن الطريق متخوّفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان أمر الإيمان ظاهراً فلما رأى عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً وينظر يميناً وشمالاً ثم ترك الباب وتحوّل لباب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك ، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرفها ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ، ويقول : يا ليت شعري ما هذا أمّا عشية أمس فكان المسلمون يخبؤون هذه العلامة ويستخفون بها ، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلي حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ بكسائه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة ، فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناساً يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فرقاً ورأى أنه حيران فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا عشية أمس فليس على وجه الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلا قتل ، وأمّا اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ولا يخاف ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست المدينة التي أعرف ، ووالله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى ؟ فقال : اسمها أفسوس . فقال في نفسه : لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شرّ فأهلك ثم أنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من هذه المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم فقال : بعني بهذا الورق طعاماً فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم إلى آخر ، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها ، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض :

إنّ هذا أصاب كنزاً مخبأ في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم تمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً ، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس ، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه فقال لهم : وهو شديد الفرق أفضلوا عليّ قد أخذتم ورقي فأمسكوها ، وأمّا طعامكم فليس لي حاجة به .

فقالوا : من أنت يا فتى ؟ وما شأنك ؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأوّلين وأنت تريد أن تخفيه انطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت وإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك ، فلما سمع قولهم قال : ما وجدت شيئاً وقال قد وقعت في كل شيء أحذر منه قالوا : يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم وخاف حتى إنه لم يردّ إليهم جواباً ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطرحوه في عنقه وجعلوا يقودونه في سكك المدينة حتى سمع من فيها فقيل أخذ رجل عنده كنز واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه قط ، وما نعرفه فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم ، فلما اجتمع عليه أهل المدينة وكان متيقناً أنّ أباه وإخوته في المدينة وأنه من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به ، فبينما هو قائم كالحيران ينظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من بين أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر أسطيوس ، فلما انطلقوا به إليهما ظنّ تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون وجعل تمليخا يبكي ويرفع رأسه إلى السماء .

وقال : اللهمّ إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم عليّ صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني بها عند هذا الجبار وجعل يقول في نفسه : فرّق ما بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ويا ليتهم يأتوني فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار فإنا كنا توافقنا على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وأنّ لا نشرك به شيئاً ولا نفترق في حياة ولا موت ، فلما انتهى به إلى الرجلين الصالحين ورأى أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء فأخذ أريوس وأسطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ثم قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى ؟ فقال تمليخا : ما وجدت كنزاً ولكن هذا ورق أبائي ونقش المدينة وضربها ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم فقال أحدهما : ممن أنت ؟ فقال تمليخا : أمّا أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة قالوا : فمن أبوك ؟ ومن يعرفك بها ؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه فقال له : أحدهما أنت رجل كذاب لا تأتينا بالحق فلم يدر تمليخا ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض ، فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون . وقال بعضهم : ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً حتى ينفلت منكم .

فقال له أحدهما ونظر إليه نظراً شديداً : أتظنّ انا نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذه الورق وضربها أكثر من ثلاثمائة سنة ، وأنت غلام شاب وتظنّ أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شيوخ وشمط كما ترى وحولك سراة هذه المدنية وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته ، فلما قال ذلك قال لهم تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدّقتكم عما عندي فقالوا : سل لا نكتمك شيئاً .

قال : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا : ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس ولم يكن إلا ملكاً هلك منذ زمان ودهر طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة . فقال تمليخا : إني إذا لحيران وما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول لقد كنا فتية وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا فلما انتبهنا خرجت لأشتري طعاماً وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي فلما سمع أريوس ما يقول تمليخا قال : يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله تعالى جعلها الله تعالى لكم على يد هذا الغلام فانطلقوا بنا معه ليرينا أصحابه فانطلق معه أريوس وأسطيوس ومعهما جميع أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصخاب الكهف لينظروا إليهم فلما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي فيه فظنوا أنه قد أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتحققونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة عندهم فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليأتوا بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضاً .

وقالوا : انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار وهو ينتظرنا حتى نأتيه فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس على هذه الحالة إذا هم بأريوس وأصحابه وقوف على باب الكهف فسبقهم تمليخا ودخل وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن خبره فقص عليهم الخبر كله فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله تعالى ذلك الزمن الطويل ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث ويعلم الناس أنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ثم دعا رجالاً من عظماء أهل المدينة ففتح التابوت عندهم فوجد فيه لوحين من رصاص مكتوب فيهما مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا ومطرونس وكشطونس وبيرونس وبيطونس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة وإنا كتبنا أسماءهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم فلما قرؤوه عجبوا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم آية البعث فيهم ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله تعالى وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوساً مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخرّ أريوس وأصحابه سجوداً وحمدوا الله تعالى الذي أراهم آية من آياته ، ثم كلم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوه من ملكهم دقيانوس ثم إنّ أريوس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح تندوسيس أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله تعالى على ملكك وجعلها آية للعالمين ليكون لهم نوراً وضياء وتصديقاً للبعث ، فاعجل إلى فتية بعثهم الله تعالى وكان قد توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة ، فلما أتى الملك الخبر قام ورجع إليه عقله وذهب همه ، فقال : أحمد الله ربّ السماوات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطوّلت عليّ ورحمتني فلم تطفئ النور الذي جعلته لآبائي وللعبد الصالح قسطيطينوس الملك فلما نبئ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه نحو الكهف فلما صعد الجبل ورأى الفتية تندوسيس فرحوا به وخرّوا سجداً على وجوههم وقام تندوسيس قدّامهم ثم اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله تعالى ويحمدونه ثم قالوا له : نستودعك الله السلام عليك ورحمة الله وبركاته وحفظك وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجنّ ، فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم وقام الملك تندوسيس إليهم فجعل ثيابه عليهم ، وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في المنام وقالوا له إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكن خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله تعالى منه فأمر الملك حينئذٍ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم ، وقيل إنّ تمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك : من أنت ؟

قال : أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواماً لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أنّ فتية فقدوا في الزمان الأوّل وأن أسماؤهم مكتوبة على لوح في خزانته فدعا باللوح فنظر في أسمائهم فإذا اسمه مكتوب في ذكر أسماء الآخرين فقال تمليخا : هم أصحابي فلما سمع الملك ذلك ركب هو ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا : دعوني حتى أدخل على أصحابي وأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل فبشرهم فقضبت روحه وأرواحهم وأغمي على الملك وأصحابه أثرهم فلم يهتدوا عليهم .

ثم وقع التنازع في أمرهم بين أهل المدينة كما قال تعالى : { إذ يتنازعون } ، أي : أهل المدينة { بينهم أمرهم } ، أي : أمر الفتية في البناء حولهم { فقالوا } ، أي : الكفار { ابنوا عليهم } ، أي : حولهم { بنياناً } يسترهم فإنهم كانوا على ديننا وقوله تعالى : { ربهم أعلم بهم } يجوز أن يكون من كلام الله تعالى وأن يكون من كلام المتنازعين فيهم { قال الذين غلبوا على أمرهم } ، أي : أمر الفتية وهم المؤمنون { لنتخذن عليهم } ، أي : حولهم { مسجداً } يصلى فيه وفعل ذلك على باب الكهف ، وقيل : إنّ بعضهم قال : الأولى أن نسدّ باب الكهف عليهم لئلا يدخل أحد عليهم ولا يقف على أحوالهم إنسان . وقال الآخرون : بل الأولى أن نبني على باب الكهف مسجداً وهذا القول يدل على أنّ أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله ومعترفين بالعبادة والصلاة ، وقيل : تنازعوا في مقدار مكثهم وقيل في عددهم وأسمائهم .

تنبيه : بنياناً يجوز أن يكون مفعولاً به جمع بنيانة وأن يكون مصدراً .