قوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره } ، ظهره .
قوله تعالى : { إلا متحرفاً لقتال } ، أي : منعطفاً يرى من نفسه الانهزام ، وقصده طلب الغرة ، وهو يريد الكرة .
قوله تعالى : { أو متحيزاً إلى فئة } ، أي : منضماً ، صائراً ، إلى جماعة من المؤمنين ، يريد العود إلى القتال ، ومعنى الآية : النهي عن الانهزام من الكفار والتولي عنهم ، إلا على نية التحرف للقتال ، والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعود إلى القتال ، فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد .
كما قال تعالى : { فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } ، اختلف العلماء في هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري : هذا في أهل بدر خاصة ، ما كان يجوز لهم الانهزام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض ، فيكون الفار متحيزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، والضحاك . قال يزيد بن أبي حبيب : أوجب الله النار لمن فر يوم بدر ، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم } [ آل عمران :155 ] ، ثم كان يوم حنين بعده فقال { ثم وليتم مدبرين } [ التوبة :25 ] { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } [ التوبة :27 ] . وقال عبد الله : كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة فانهزمنا ، فقلنا : يا رسول الله نحن الفرارون ، قال : بل أنتم الكرارون ، أنا فئة المسلمين . وقال محمد بن سيرين : لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال : لو انحاز إليّ كنت له فئة فأنا فئة كل مسلم . وقال بعضهم : حكم الآية عام في حق كل من ولى منهزماً . جاء في الحديث : ( من الكبائر الفرار من الزحف ) . وقال عطاء بن أبي رباح : هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل : { الآن خفف الله عنكم } [ الأنفال : 66 ] فليس لقوم أن يفروا من مثليهم ، فنسخت تلك إلا في هذه العدة ، وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا أو أن يولوا ظهورهم إلا متحرفا لقتال ، أو متحيزا إلى فئة ، وإن كانوا أقل من ذلك جاز لهم أن يولوا ظهورهم وينحازوا عنهم ، قال ابن عباس : من فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن فر من اثنين فقد فر .
يقول تعالى متوعدًا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا } أي : تقاربتم منهم ودنوتم إليهم ، { فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ } أي : تفروا وتتركوا أصحابكم ، { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ } أي : يفر بين يدي قرنه مكيدة ؛ ليريه أنه [ قد ]{[12746]} خاف منه فيتبعه ، ثم يكر عليه فيقتله ، فلا بأس عليه في ذلك . نص عليه سعيد بن جبير ، والسدي .
وقال الضحاك : أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها .
{ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } أي : فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين ، يعاونهم ويعاونوه{[12747]} فيجوز له ذلك ، حتى [ و ]{[12748]} لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة - وكنت فيمن حاص - فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ؟ ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ؟ فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : " من القوم ؟ " فقلنا : نحن الفرارون . فقال : " لا بل أنتم العَكَّارون ، أنا فئتكم ، وأنا فئة المسلمين " قال : فأتيناه حتى قَبَّلنا يده .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من طرق عن يزيد بن أبي زياد{[12749]} وقال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديثه .
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن أبي زياد به . وزاد في آخره : وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ }
قال أهل العلم : معنى قوله : " العَكَّارون " أي : العطافون . وكذلك قال عمر بن الخطاب . رضي الله عنه ، في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر : لو انحاز إليّ كنت له فئة . هكذا رواه محمد بن سيرين ، عن عمر{[12750]}
وفي رواية أبي عثمان النهدي ، عن عمر قال : لما قتل أبو عبيد قال عمر : يا أيها الناس ، أنا فئتكم .
وقال مجاهد : قال عمر : أنا فئة كل مسلم .
وقال عبد الملك بن عُمَيْر ، عن عمر : أيها الناس ، لا تغرنكم هذه الآية ، فإنما كانت يوم بدر ، وأنا{[12751]} فئة لكل مسلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي ، حدثنا نافع : أنه سأل ابن عمر قلت : إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ، ولا ندري من الفئة : إمامنا أو عسكرنا ؟ فقال : إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت إن الله يقول : { إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ }{[12752]} فقال : إنما نزلت هذه الآية في يوم بدر ، لا قبلها ولا بعدها .
وقال الضحاك في قوله : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } المتحيز : الفار إلى النبي وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه .
فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب ، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر ، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات " . قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتَّوَلِّي يوم الزحف ، وقَذْفِ المحصنات الغافلات المؤمنات " {[12753]}
ولهذا الحديث شواهد من وجوه أخر ؛ ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ بَاءَ } أي : رجع { بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ } أي : مصيره ومنقلبه يوم ميعاده : { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عَدِيّ ، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، حدثنا جبلة بن سُحَيْم ، عن أبي المثنى العبدي ، سمعت السدوسي - يعني ابن الخصاصية ، وهو بشير بن معبد - قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فاشترط علي : " شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أؤدي الزكاة ، وأن أحج حَجَّة الإسلام ، وأن أصوم شهر رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله " . فقلت : يا رسول الله ، أما اثنتان فوالله لا أطيقهما : الجهاد ، فإنهم زعموا أنه من ولى الدُّبُر فقد باء بغضب من الله ، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت . والصدقة ، فوالله ما لي إلا غُنَيْمَةٌ وعشر ذَوْدٍ هُنَّ رَسَل أهلي وحَمُولتهم . فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حرك يده ، ثم قال : " فلا جهاد ولا صدقة ، فيم تدخل الجنة إذا ؟ " فقلت : يا رسول الله ، أنا أبايعك . فبايعته عليهنَّ كلهنَّ .
هذا حديث{[12754]} غريب{[12755]} من هذا الوجه{[12756]} ولم يخرجوه في الكتب الستة .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر ، حدثنا يزيد بن ربيعة ، حدثنا أبو الأشعث ، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا ينفع معهن عمل : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف " . {[12757]}
وقال الطبراني أيضا : حدثنا العباس بن الفضل الأسْفَاطِيّ ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الشَّنِّي ، حدثني عمرو بن مرة قال : سمعت بلال بن يسار بن زيد - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : سمعت أبي حدث عن جدي قال : قال رسول الله : " من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فر من الزحف " .
وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، به . وأخرجه الترمذي ، عن البخاري ، عن موسى بن إسماعيل به . وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه{[12758]}
قلت : ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، عنه سواه .
وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة ؛ لأنه - يعني الجهاد - كان فرض عين عليهم . وقيل : على الأنصار خاصة ؛ لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره . وقيل : [ إنما ]{[12759]} المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة ، يروى هذا عن عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وأبي نضرة ، ونافع مولى ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم .
وحجتهم في هذا : أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها سوى عصابتهم تلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } قال : ذلك يوم بدر ، فأما اليوم : فإن انحاز إلى فئة أو مصر - أحسبه قال : فلا بأس عليه .
وقال ابن المبارك أيضا ، عن ابن لَهِيعَة : حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار ، قال : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ] }{[12760]} { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] ، ثم كان يوم حُنَيْن بعد ذلك بسبع سنين ، قال : { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } [ التوبة : 27 ] .
وفي سنن أبي داود ، والنسائي ، ومستدرك الحاكم ، وتفسير ابن جرير ، وابن مَرْدُوَيه ، من حديث داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إنما{[12761]} أنزلت في أهل بدر{[12762]} وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر ، وإن كان سبب النزول فيهم ، كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم ، من أن الفرار من الزحف من الموبقات ، كما هو مذهب الجماهير ، والله [ تعالى ]{[12763]} أعلم .
{ ومن يولّهم يومئذ دبره إلا متحرّفا لقتالٍ } يريد الكر بعد الفر وتغرير العدو ، فإنه من مكايد الحرب . { أو متحيّزاً إلى فئة } أو منحازا إلى فئة أخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم ، ومنهم من لم يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففروا إلى المدينة فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون فقال : " بل أنتم العكارون وأنا فئتكم " . وانتصاب متحرفا ومتحيزا على الحال وإلا لغو لا عمل لها ، أو الاستثناء من المولين أي إلا رجلا متحرفا أو ومتحيزا ، ووزن متحير متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزا لأنه من حاز يحوز . { فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } هذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله : { الآن خفف الله عنكم } الآية ، وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في الحرب .
وأمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار ، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في ِمْثَلْي المؤمنين ، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم ، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة ، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب اله عز وجل : وهذا قول جمهور الأمة ، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة : يراعى أيضاً الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم ، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة ، لأنها بشعة على الفار ذامة له ، وقرأ الجمهور «دبُره » بضم الباء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «دبْره » بسكون الباء ، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله { يومئذ } فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه ، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر ، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف{[5262]} ، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم ، وقال فيهم يوم حنين :
{ ثم وليتم مدبرين }{[5263]} ولم يقع على ذلك تعنيف .
قال القاضي أبو محمد : وقال الجمهور من الأمة : الإشارة ب { يومئذ } إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله { إذا لقيتم } وحكم الآية باق لى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة ، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفواً عن كبيرة ، و { متحرفاً لقتال } يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ، ونصبه على الحال ، وكذلك نصب متحيز ، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم { من } ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التولي .
قال القاضي أبو محمد : ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً وتحيزاً ، والفئة ها هنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب ، هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة ، وأما على القول الآخر فتكون ( الفئة ) :المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وأنه قال : أنا فئتكم أيها المسلمون{[5264]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مراراً ، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه : «أنا فئة المسلمين »{[5265]} حين قدموا عليه ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اتقوا السبع الموبقات » وعدد فيها الفرار من الزحف{[5266]} ، و { باء } بمعنى نهض متحملاً للثقل المذكور في الكلام غضباً كان أو نحوه ، والغضب من صفات الله عز وجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفات ذات ، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل ، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية ، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان .
ثم استثني منه حالة التحرف لأجل الحيلة الحربية والانحياز إلى فِئَة من الجيش للاستنجاد بها أو لإنجادها .
والمستثنى يجوز أن يكون ذاتاً مستثنى من الموصول في قوله { ومن يولهم } والتقدير : إلاّ رَجلاً مُتحرفاً لقتال ، فحذف الموصوف وبقيت الصفة ، ويجوز أن يكون المستثنى حالة من عموم الأحوال دل عليها الاستثناء أي إلاّ في حال تحرفه لقتال .
و ( التحرف ) الانصراف إلى الحَرْف ، وهو المكان البعيد عن وسطه فالتحرف مزايلة المكان المستقر فيه والعدولُ إلى أحد جوانبه ، وهو يستدعي تولية الظهر لذلك المكان بمعنى الفرار منه .
واللام للتعليل أي إلاّ في حال تحرف أي مجانبة لأجل القتال ، أي لأجل أعماله إن كان المراد بالقتال الاسم ، أو لأجل إعادة المقاتلة إن كان المراد بالقتال المصدر ، وتنكير قتال يرجح الوجه الثاني ، فالمراد بهذا التحرف ما يعبر عنه بالفَرّ لأجل الكرّ فإن الحرب كرّ وفرّ ، وقال عمرو بن معديكرب :
ولقد أجمَعُ رِجليَّ بها *** حذَر الموت وإني لفـرور
ولقد أعْطِفها كارهـة *** حينَ للنفس من الموت هَرِير
كل ما ذلك مني خُلُق *** وبكلٍ أنا في الروْع جـدير
والتحيز طلب الحَيْز فَيْعِل من الحَوْز ، فأصل إحدى ياءيْه الواو ، فلما اجتمعت الواو والياء وكانت السابقة ساكنة قلبت الواوُ ياء وأدغمت الياء في الياء ، ثم اشتقوا منه تَحَيّز ، فوزنه تَفَيْعَل وهو مختار صاحب « الكشاف » جرياً على القياس بقدر الإمكان ، وجوّز التفتازاني أن يَكون وزنه تَفَعّل بناء على اعتباره مشتقاً من الكلمة الواقع فيها الإبدال والإدغامُ وهي الحَيز ، ونظّره بقولهم : « تَدَيُّر » بمعنى الإقامة في الدار ، فإن الدار مشتقة من الدوران ولذلك جُمعت على دُور ، إلاّ أنه لما كثر في جمعها دِيَار ودِيرَة عوملت معاملة ما عينه ياء ، فقالوا من ذلك تَدَيّرَ بمعنى أقام في الدار وهو تَفعّل من الدار ، واحتَج بكلام ابن جني والمرزوقي في « شرح الحماسة » ، يعني ما قال ابن جني في « شرح الحماسة » عند قول جابر بن حريش :
إِذْ لا تخاف حُدُوجُنا قذْفَ النّوى *** قبلَ الفساد إِقامةً وتديرا
التدير تفَعُّل من الدار وقياسه تدور إلاّ أنه لما كثر استعمالهم ديار أَنِسوا بالياء ووجدوا جانبها أوطا حسّاً وألين مسّاً فاجتروا عليها فقالوا تدير » وما قال المرزوقي « الأصل في تَدَير الواو ولكنهم بنوه على دِيَارِ لإلفِهم له بكثرة تردده في كلامهم » .
فمعنى { متحيزاً إلى فئة } أن يكون رجع القهقرى ليلتحق بطائفة من أصحابه فيتقوى بهم .
والفِئَة الجماعة من الناس ، وقد تقدم في سورة البقرة ( 249 ) في قوله : { كم من فئةٍ قليلةَ } وتطلق على مؤخرة الجيش لأنها يفيء إليها مَن يحتاج إلى إصلاح أمره أو مَن عَرض له ما يَمنعه من القتال من مرض أو جراحة أو يستنجد بهم ، فهو تولَ لمقصد القتال ، وليس المراد أن ينحاز إلى جماعة مستريحين لأن ذلك من الفرار ، ويدخل في معنى التحيز إلى الفئة الرجوع إلى مقر أمير الجيش للاستنجاد بفئة أخرى ، وكذلك القفول إلى مقر أمير المِصر الذي وجه الجيش للاستمداد بجيش آخر إذا رأى أميرُ الجيش ذلك من المصلحة كما فعل المسلمون في فتح إفريقية وغيره في زمن الخلفاء ، ولما انهزم أبو عبيد بن مسعود الثقفي يوم الجسر بالقادسية ، وقتل هو ومن معه من المسلمين ، قال عمر بن الخطاب : هلاّ تَحيّز إليّ فأنا فِئتُهْ .
و{ باء } رجع . والمعنى أن الله غضب عليه في رجوعه ذلك فهو قد رجع ملابساً لغضب الله تعالى عليه . ومناسبة ( باء ) هنا أنه يشير إلى أن سبب الغضب عليه هو ذلك البَوْء الذي باءه . وهذا غضب الله عليه في الدنيا المستحق الذم وغيره مما عسى أن يحرمه عناية الله تعالى في الدنيا ، ثم يترتب عليه المصير إلى عذاب جهنم ، وهذا يدل على أن توليه الظهر إلى المشركين كبيرة عظيمة .
فالآية دالة على تحريم التولي عن مقابلة العدو حين الزحف .
والذي أرى في فقه هذه الآية أن ظاهر الآية هو تحريم التولي على آحادهم وجماعتهم إذا التقوا مع أعدائهم في ملاحم القتال والمجالدة ، بحيث إن المسلمين إذا توجهوا إلى قتال المشركين أو إذا نزل المشركون لمقاتلتهم وعزموا على المقاتلة فإذا التقى الجيشان للقتال وجب على المسلمين الثبات والصبر للقتال ، ولو كانوا أقل من جيش المشركين ، فإمّا أن ينتصروا ، وإمّا أن يتشهدوا ، وعلى هذا فللمسلمين النظر قبل اللقاء هل هم بحيث يستطيعون الثبات وجهه أولاً ، فإن وقت المجالدة يضيق عن التدبير ، فعلى الجيش النظر في عَدده وعُدده ونسبة ذلك من جيش عدوهم ، فإذا أزمعوا الزحف وجب عليهم الثبات ، وكذلك يكون شأنهم في مدة نزولهم بدار العدو ، فإذا رأوا للعدو نجدة أو ازدياد قوة نظروا في أمرهم هل يثبتون لقتاله أو ينصرفون بإذن أميرهم ، فإمّا أن يأمرهم بالكف عن متابعة ذلك العدو ، وإمّا أن يأمرهم بالاستنجاد والعودة إلى قتال العدو كما صنع المسلمون في غزوة إفريقية الأولى ، وهذا هو الذي يشهد له قوله تعالى : { إذا لقيتم فئة فاثبُتوا } [ الأنفال : 45 ] وما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قام في الناس فقال : " يأيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ولعل حكمة ذلك أن يمضي المسلمون في نصر الدين . وعلى هذا الوجه يكون لأمير الجيش ، إذا رأى المصلحة في الانجلاء عن دار العدو وترككِ قتالهم ، أن يغادر دار الحرب ويرجع إلى مقره ، إذا أمن أن يلحق به العدو ، وكان له من القوة ما يستطيع به دفاعهم إذا لحقوا به ، فذلك لا يسمى تولية أدبار ، بل هو رأي ومصلحة ، وهذا عندي هو محمل ما رَوَى أبو داود والترمذي ، عن عبد الله بن عمر : أنه كان في سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فحاصَ الناسُ حَيْصة فكنت فيمن حَاص فلما برزنا قلنا كيف نصنع إذا دخلنا المدينة وقد فررنا من الزحف وبُؤنا بالغضب ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا ، وإن كان غير ذلك ذهبنا قال « فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون ، فأقبل إلينا فقال لا بل أنتم العكّارون ( أي الذين يكُرون يعني أن فراركم من قبيل الفرّ للكر ، يقال للرجل إذا ولّى عن الحرب ثم كرّ راجعاً إليها عَكرَ أوْ اعتكر ) وأنا فئة المسلمين » يَتأول لهم أن فرارهم من قبيل قوله تعالى : { أو متحيزاً إلى فئة } قال ابن عمر { فدنونا فقبلنا يده } فيفهم منه أن فرار ابن عمر وأصحابه لم يكن في وقت مجالدتهم المشركين ، ولكنه كان انسلالاً لينحازوا إلى المدينة فتلك فِئَتُهم .
وإنما حرم الله الفرار في وقت مناجزة المشركين ومجالدتهم وهو وقت اللقاء ؛ لأن الفرار حينئذٍ يوقع في الهزيمة الشنيعة والتقتيل ، وذلك أن الله أوجب على المسلمين قتال المشركين فإذا أقدم المسلمون على القتال لم يكن نصرهم إلا بصبرهم وتأييد الله إياهم ، فلو انكشفوا بالفرار لأعمل المشركون الرماح في ظهورهم فاستأصلوهم ، فلذلك أمرهم الله ورسوله بالصبر والثبات ، فيكون ما في هذه الآية هو حكم الصبر عند اللقاء ، وبهذا يكون التقييد بحال الزحف للإحتراز عن اللقاء في غير تلك الحالة . وأما آية { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] فقد بينت حكم العَدد الذين عليهم طلب جهاد المشركين بنسبة عددهم إلى عدد المشركين ، ولعل هذا مراد ابن العربي من قوله : { لأنه ظاهر الكتاب والحديث } فيما نقله ابن الفرس .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 15]
يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله "إذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُوا "في القِتالِ "زَحْفا" يقول: متزاحفا بعضكم إلى بعض، والتزاحف: التداني والتقارب. "فَلا تُوَلّوهُمُ الأدْبارَ" يقول: فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم، ولكن اثبتوا لهم فإن الله معكم عليهم. "وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ" يقول: ومن يولهم منكم ظهره "إلا مُتَحَرّفا لِقتَالٍ" يقول: إلا مستطردا لقتال عدوّه بطلب عورة له يمكنه إصابتها فيكرّ عليه، "أو مُتَحَيّزا إلى فِئَةٍ": أو إلا أن يوليهم ظهره متحيزا إلى فئة، يقول: صائرا إلى حيز المؤمنين الذين يفيئون به معهم إليهم لقتالهم ويرجعون به معهم إليهم...
واختلف أهل العلم في حكم قول الله عزّ وجلّ: "وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحَرّفا لِقِتالٍ أوْ مُتَحَيّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ومَأْوَاهُ جَهَنّمُ" هل هو خاصّ في أهل بدر، أم هو في المؤمنين جميعا؟ فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة، لأنه لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوّه وينهزموا عنه، فأما اليوم فلهم الانهزام...
وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كلّ من ولى الدبر عن العدوّ منهزما...
وأولى التأويلين في هذه الآية بالصواب: عندي قول من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، وأن الله حرّم على المؤمنين إذا لقوا العدوّ أن يولوهم الدبر منهزمين، إلاّ لتحرّف القتال، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما، فقد استوجب من الله وعيده إلاّ أن يتفضل عليه بعفوه...
وأما قوله: "فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ" يقول: فقد رجع بغضب من الله، "ومَأْوَاهُ جَهَنّمُ" يقول: ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم وبئس المصير، يقول: وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} أي متعطّفاً مستطرداً لقتال عدوّه بطلب عورة له تمكنه إصابتها فيكرّ عليه. {أَوْ مُتَحَيِّزاً} منضمّاً صابراً {إِلَى فِئَةٍ} جماعة من المؤمنين يفيئون به بسهم إلى القتال {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
"فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ" أي صار بالمكان الذي يحق عليه غضب الله، مأخوذ من المبوأ وهو المكان...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
اخبر الله تعالى أن "من يولهم": يعني الكفار، "يومئذ": يوم القتال، "دبره "فقد باء بغضب من الله". والتولية: جعل الشيء يلي غيره... وقوله "إلا متحرفا لقتال "فالتحرف: الزوال من جهة الاستواء إلى جهة الحرف...
. وقوله "أو متحيزا إلى فئة" فالتحيز: طلب حيز يتمكن فيه... والحيز: المكان الذي فيه الجوهر. والفئة: القطعة من الناس، وهي جماعة منقطعة عن غيرها... ثم أخبر تعالى أن من ولي دبره على غير وجه التحرف للقتال، أو التحيز إلى الفئة أنه باء بغضب من الله. أي رجع بسخطه تعالى واستحقاق عقابه. وأن مستقره جهنم "وبئس المصير" هي لمن صار اليها...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {إلا متحرفاً لقتال}، أي: منعطفاً يُرِي من نفسه الانهزام، وقصده طلب الغرة، وهو يريد الكرة.
قوله تعالى: {أو متحيزاً إلى فئة}، أي: منضماً، صائراً، إلى جماعة من المؤمنين، يريد العود إلى القتال، ومعنى الآية: النهي عن الانهزام من الكفار والتولي عنهم، إلا على نية التحرف للقتال، والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعود إلى القتال، فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ} هو الكرّ بعد الفرّ، يخيل عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها {أَوْ مُتَحَيّزاً} أو منحازاً {إلى فِئَةٍ} إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والمتحرف للقتال أو غيره هو المنحرف عن جانب إلى آخر وأصله من الحرف وهو الطرف، وصيغة التفعيل تعطيه معنى التكلف أو معاناة الفعل المرة بعد المرة أو بالتدريج وفي معناه (المتحيز) وهو المنتقل من حيز إلى آخر، والحيز المكان، ومادته الواو، فالحوز المكان يبنى حوله حائط، قال في الأساس: انحاز عن القوم: اعتزلهم، وانحاز إليهم وتحيز انضم. وذكر جملة الآية (والفئة) الطائفة من الناس (والمأوى) الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان وينضم.
والمعنى {ومن يولّهم يومئذ دبره} عبر بلفظ تولية الدبر في وعيد كل فرد كما عبر به في نهي الجماعة لتأكيد حرمة جريرة الفرار من الزحف وكون الفرد فيها كالجماعة وآثر هذا اللفظ مفردا وجمعا على لفظ الظهور والظهر أو القفا والأقفية زيادة في تشنيعها لأنه لفظ يكنى به عن السوأة أي وكل من يولهم يوم إذ تلقونهم دبره {إلا متحرّفا لقتال} أي إلا متحرفا لمكان من أمكنة القتال رآه أحوج إلى القتال فيه- أو متحرفا لضرب من ضروبه رآه أبلغ في النكاية بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه فينفرد عن أشياعه فيكرّ عليه فيقتله {أو متحيّزا إلى فئة} أي منتقلا إلى فئة من المؤمنين في حيز غير الذي كان فيه لينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم، فصاروا أحوج إليه ممن كان في حيزهم.
{فقد باء بغضب من الله} أي فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من الله عليه {ومأواه جهنم وبئس المصير} ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير جهنم، كان المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه من الهلاك فعوقب على ذلك بجعل عاقبته التي يصير إليها دار الهلاك والعذاب الدائم، أي جوزي بضد غرضه من معصية الفرار، وقد تكرر في التنزيل التعبير عن جهنم والنار بالمأوى وهو إما من قبيل ما هنا وإما للتهكم المحض، فإنك إذا راجعت استعمال هذا الحرف في غير هذا المقام من التنزيل تجده لا يذكر إلا في مقام النجاة من خوف أو شدة كقوله تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} [الكهف: 10] وقوله: {أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80] وقوله: {سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} [هود: 43] وقوله: {والذين آووا ونصروا} [الأنفال: 72] الخ.
والآية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي وقد جاء التصريح بذلك في أحاديث أصحها عن أبي هريرة مرفوعا عند الشيخين (اجتنبوا السبع الموبقات) أي المهلكات، قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: (الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) وقد قيد بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين، وعدّ بعضهم الآية منسوخة بقوله تعالى من هذه السورة {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} [الأنفال: 66] وستأتي. وهذا ظاهر على قول من يسمي التخصيص نسخا كالمتقدمين. قال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة. وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة...
فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص وقرينة الحال في النهي اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذي في الآية خاصا بها، أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة رضي الله عنهم بالتولي والإدبار في القتال مرتين مع وجوده صلى الله عليه وسلم معهم يوم أحد وفيه يقول الله تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم أن الله غفور حليم} [آل عمران: 155] ويوم حنين وفيه يقول الله تعالى: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين} [التوبة: 25] {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [التوبة: 26] الخ وهذا لا ينافي كون التولي حراما ومن الكبائر، ولا يقتضي أن يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير. بل قد يكون دون ذلك ويتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتي تفصيله قريبا.
وقد روى أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا فأتيناه قبل الصلاة الغداة فخرج فقال (من الفرارون؟) فقلنا نحن الفرارون. قال (بل أنتم العكارون أنا فئتكم وفئة المسلمين) قال فأتيناه حتى قبلنا يده. ولفظ أبي داود: فقلنا ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد، فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا، فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون الخ، تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى ولا للغة حكم، وقد قال الترمذي فيه: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد. أقول وهو مختلف فيه ضعفه الكثيرون، وقال ابن حبان كان صدوقا إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه فمن سمع منه قبل التغير فسماعه صحيح. وجملة القول إن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متناً ولا سنداً، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
التولي يوم الزحف على إطلاقه يستحق هذا التشديد لضخامة آثاره الحركية من ناحية؛ ولمساسه بأصل الاعتقاد من ناحية.. إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون راسخا ثابتا لا تهزمه في الأرض قوة، وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده.. وإذا جاز أن تنال هذا القلب هزة -وهو يواجه الخطر- فإن هذه الهزة لا يجوز أن تبلغ أن تكون هزيمة وفرارا. والآجال بيد الله، فما يجوز أن يولي المؤمن خوفا على الحياة. وليس في هذا تكليف للنفس فوق طاقتها. فالمؤمن إنسان يواجه عدوه إنسانا. فهما من هذه الناحية يقفان على أرض واحدة. ثم يمتاز المؤمن بأنه موصول بالقوة الكبرى التي لا غالب لها. ثم إنه إلى الله إن كان حياً، وإلى الله إن كتبت له الشهادة. فهو في كل حالة أقوى من خصمه الذي يواجهه وهو يشاق الله ورسوله.. ومن ثم هذا الحكم القاطع: (ومن يولهم يومئذ دبره -إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة- فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و (التحرف) الانصراف إلى الحَرْف، وهو المكان البعيد عن وسطه فالتحرف مزايلة المكان المستقر فيه والعدولُ إلى أحد جوانبه، وهو يستدعي تولية الظهر لذلك المكان بمعنى الفرار منه. واللام للتعليل أي إلاّ في حال تحرف أي مجانبة لأجل القتال، أي لأجل أعماله إن كان المراد بالقتال الاسم، أو لأجل إعادة المقاتلة إن كان المراد بالقتال المصدر، وتنكير قتال يرجح الوجه الثاني، فالمراد بهذا التحرف ما يعبر عنه بالفَرّ لأجل الكرّ فإن الحرب كرّ وفرّ...
معنى {متحيزاً إلى فئة} أن يكون رجع القهقرى ليلتحق بطائفة من أصحابه فيتقوى بهم. والفِئَة الجماعة من الناس، وقد تقدم في سورة البقرة (249) في قوله: {كم من فئةٍ قليلةَ} وتطلق على مؤخرة الجيش لأنها يفيء إليها مَن يحتاج إلى إصلاح أمره أو مَن عَرض له ما يَمنعه من القتال من مرض أو جراحة أو يستنجد بهم، فهو تولَ لمقصد القتال، وليس المراد أن ينحاز إلى جماعة مستريحين لأن ذلك من الفرار، ويدخل في معنى التحيز إلى الفئة الرجوع إلى مقر أمير الجيش للاستنجاد بفئة أخرى، وكذلك القفول إلى مقر أمير المِصر الذي وجه الجيش للاستمداد بجيش آخر إذا رأى أميرُ الجيش ذلك من المصلحة كما فعل المسلمون في فتح إفريقية وغيره في زمن الخلفاء...
و {باء} رجع. والمعنى أن الله غضب عليه في رجوعه ذلك فهو قد رجع ملابساً لغضب الله تعالى عليه.
ومناسبة (باء) هنا أنه يشير إلى أن سبب الغضب عليه هو ذلك البَوْء الذي باءه. وهذا غضب الله عليه في الدنيا المستحق الذم وغيره مما عسى أن يحرمه عناية الله تعالى في الدنيا، ثم يترتب عليه المصير إلى عذاب جهنم، وهذا يدل على أن توليه الظهر إلى المشركين كبيرة عظيمة. فالآية دالة على تحريم التولي عن مقابلة العدو حين الزحف. والذي أرى في فقه هذه الآية أن ظاهر الآية هو تحريم التولي على آحادهم وجماعتهم إذا التقوا مع أعدائهم في ملاحم القتال والمجالدة، بحيث إن المسلمين إذا توجهوا إلى قتال المشركين أو إذا نزل المشركون لمقاتلتهم وعزموا على المقاتلة فإذا التقى الجيشان للقتال وجب على المسلمين الثبات والصبر للقتال، ولو كانوا أقل من جيش المشركين، فإمّا أن ينتصروا، وإمّا أن يتشهدوا، وعلى هذا فللمسلمين النظر قبل اللقاء هل هم بحيث يستطيعون الثبات وجهه أولاً، فإن وقت المجالدة يضيق عن التدبير، فعلى الجيش النظر في عَدده وعُدده ونسبة ذلك من جيش عدوهم، فإذا أزمعوا الزحف وجب عليهم الثبات، وكذلك يكون شأنهم في مدة نزولهم بدار العدو، فإذا رأوا للعدو نجدة أو ازدياد قوة نظروا في أمرهم هل يثبتون لقتاله أو ينصرفون بإذن أميرهم، فإمّا أن يأمرهم بالكف عن متابعة ذلك العدو، وإمّا أن يأمرهم بالاستنجاد والعودة إلى قتال العدو كما صنع المسلمون في غزوة إفريقية الأولى، وهذا هو الذي يشهد له قوله تعالى: {إذا لقيتم فئة فاثبُتوا} [الأنفال: 45] وما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قام في الناس فقال:"يأيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ولعل حكمة ذلك أن يمضي المسلمون في نصر الدين. وعلى هذا الوجه يكون لأمير الجيش، إذا رأى المصلحة في الانجلاء عن دار العدو وترككِ قتالهم، أن يغادر دار الحرب ويرجع إلى مقره، إذا أمن أن يلحق به العدو، وكان له من القوة ما يستطيع به دفاعهم إذا لحقوا به، فذلك لا يسمى تولية أدبار، بل هو رأي ومصلحة، وهذا عندي هو محمل ما رَوَى أبو داود والترمذي، عن عبد الله بن عمر: أنه كان في سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فحاصَ الناسُ حَيْصة فكنت فيمن حَاص فلما برزنا قلنا كيف نصنع إذا دخلنا المدينة وقد فررنا من الزحف وبُؤنا بالغضب ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا قال « فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون، فأقبل إلينا فقال لا بل أنتم العكّارون (أي الذين يكُرون يعني أن فراركم من قبيل الفرّ للكر، يقال للرجل إذا ولّى عن الحرب ثم كرّ راجعاً إليها عَكرَ أوْ اعتكر) وأنا فئة المسلمين» يَتأول لهم أن فرارهم من قبيل قوله تعالى: {أو متحيزاً إلى فئة} قال ابن عمر {فدنونا فقبلنا يده} فيفهم منه أن فرار ابن عمر وأصحابه لم يكن في وقت مجالدتهم المشركين، ولكنه كان انسلالاً لينحازوا إلى المدينة فتلك فِئَتُهم.
وإنما حرم الله الفرار في وقت مناجزة المشركين ومجالدتهم وهو وقت اللقاء؛ لأن الفرار حينئذٍ يوقع في الهزيمة الشنيعة والتقتيل، وذلك أن الله أوجب على المسلمين قتال المشركين فإذا أقدم المسلمون على القتال لم يكن نصرهم إلا بصبرهم وتأييد الله إياهم، فلو انكشفوا بالفرار لأعمل المشركون الرماح في ظهورهم فاستأصلوهم، فلذلك أمرهم الله ورسوله بالصبر والثبات، فيكون ما في هذه الآية هو حكم الصبر عند اللقاء، وبهذا يكون التقييد بحال الزحف للاحتراز عن اللقاء في غير تلك الحالة. وأما آية {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] فقد بينت حكم العَدد الذين عليهم طلب جهاد المشركين بنسبة عددهم إلى عدد المشركين، ولعل هذا مراد ابن العربي من قوله: {لأنه ظاهر الكتاب والحديث} فيما نقله ابن الفرس...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
...وقد يكون الفرار أمرا ضروريا إذا كان العدو أغلب، ولكن الفرار لا يكون بتولية الأدبار، بل يكون بتدبير الانسحاب ويكون بالتراجع، من غير أن يولوا ظهورهم للأعداء، يضربون في أدبارهم، كما فعل القائد العظيم خالد بن الوليد هذا عندما آل إليه أمر القيادة بعد قتل زيد بن حارثة وجعفر بمن أبي طالب وعبد الله بن أبي رواحة، فقد رأى أن أمامه جيشا يعد بمئات الألوف، ومعه ثلاثة ألوف، فقد أخذ يتراجع، ويوهم الأعداء أنه قد جاءه مدد حتى عاد إلى المدينة وسماهم بعض المجاهدين فرارين، وسماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (العكارين) (1) أي الكرارين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أي ظهره في حالة لقاء العدوّ، {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} وذلك إذا أراد الانتقال من جهة إلى أخرى في عمليةٍ تراجعيةٍ تمويهيةٍ، يحاول من خلالها الالتفاف على العدوّ والهجوم عليه من جديد على أساس خطةٍ عسكريةٍ مدروسةٍ {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} فينحاز إلى جماعته وجبهته، ليقاتل من موقعٍ قويّ، لا من حالة فردية... {فَقَدْ بآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ}. أي رجع بسخط الله، {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، لأنّ هذه المعصية ليست كبقيّة المعاصي الفردية المحدودة التي تتصل بالحياة الخاصة للعاصي، بل تمتد لتهزم المسيرة الإسلامية كلها، عندما يقع المسلمون في قبضة الهزيمة التي يختارونها في مواقف الضعف الداخلي الذي ينطلق من حبّ الحياة وكراهة الموت...