فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (16)

{ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فإنه إشارة إلى يوم بدر . وقيل إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف . وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة ، وأن الفرار من الزحف محرّم ، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر .

وأجيب عن قول الأوّلين بأن الإشارة في { يَوْمَئِذٍ } إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق ، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف . بل هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضعف ، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها ، فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ، لأنه صلى الله عليه وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال . ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرّحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث : «اجتنبوا السبع الموبقات ، وفيه : والتولي يوم الزحف » ونحوه من الأحاديث ، وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه ، وهو مبين في مواطنه . قال ابن عطية : والأدبار جمع دبر ، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفارّ والذمّ له .

قوله : { إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ } التحرف : الزوال عن جهة الاستواء . والمراد به هنا التحرّف من جانب إلى جانب في المعركة طلباً لمكائد الحرب ، وخداعاً للعدوّ ، وكمن يوهم أنه منهزم ليتبعه العدوّ ، فيكرّ عليه ويتمكن منه ، ونحو ذلك من مكائد الحرب ، فإن الحرب خدعة .

قوله : { أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ } أي : إلى جماعة من المسلمين ، غير الجماعة المقابلة للعدوّ . وانتصاب { متحرّفاً } و { متحيزاً } على الاستثناء من المولين ، أي ومن يولهم دبره إلا رجلاً منهم متحرّفاً أو متحيزاً . ويجوز انتصابهما على الحال ، ويكون حرف الاستثناء لغواً لا عمل له . وجملة { فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله } جزاء للشرط . والمعنى : من ينهزم ويفرّ من الزحف ، فقد رجع بغضب كائن من الله إلاّ المتحرّف والمتحيز . { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } أي : المكان الذي يأوي إليه هو النار . فقراره أوقعه إلى ما هو أشدّ بلاء مما فرّ منه وأعظم عقوبة . والمأوى : ما يأوي إليه الإنسان { وَبِئْسَ المصير } ما صار إليه من عذاب النار . وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفرّ عن الزحف ، وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة .

/خ18