البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (16)

المتحيّز المنضم إلى جانب ، وقال أبو عبيدة : التحيّز والتحوّز التنحّي ، وقال الليث : ما لك متحوز إذا لم تستقرّ على الأرض وأصله من الحوز وهو الجمع يقال خرته في الطرس فانحاز وتحيّز انضمّ واجتمع وتحوّزت الحية انطوت واجتمعت وسمى التنحّي تحيزاً لأن المتنحي عن جانب ينضمّ عنه ويجتمع إلى غيره وتحيز تفيعل أصله تحيوز اجتمعت ياء وواو وسُبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمَتْ فيها الياء وتحوّز تفعل ضعفت عينه .

{ ومن يولهم يؤمئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة باء بغضب من الله ومأواه جهنم } لما نهى تعالى عن تولي الأدبار توعّد من ولّى دبره وقت لقاء العدوّ وناسب قوله { ومن يولهم } { فقد باء بغضب } كان المعنى فقد ولّى مصحوباً بغضب الله وعدل أيضاً عن ذكر الظهر إلى الدبر مبالغة في التقبيح والذمّ إذ تلك الحالة من الصفات القبيحة المذمومة جدّاً ألا ترى إلى قول الشاعر :

فلسنا على الأعقاب تجري كلومنا *** ولكن على أقدامنا تقطر الدما

قال في التحرير : وهذا النوع من علم البيان يُسمى بالتعريض عرض بسوء حالهم وقبح فعالهم وخساسة منزلتهم وبعضهم يسميه الإيماء وبعضهم يسميه الكنانة وهذا ليس بشيء فإنّ الكناية أن تصرّح باللفظ الجميل على المعنى القبيح انتهى ، والظاهر أنّ الجملة المحذوفة بعد { إذ } وعوض منها التنوين هي قوله { إذ لقيتم الكفار } فقيل المراد يوم بدر وما وليه في ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فرّ ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف وبقي الفرار من الزحف ليس كبيرة وقد فرّ الناس يوم أحد فعفا الله عنهم وقال الله فيهم ويوم حنين { ثم وليتم مدبرين } ولم يقع على ذلك تعنيف انتهى ، وهذا القول بأن الإشارة بقوله يومئذ لا يظهر إلى يوم بدر لا يظهر لأنّ ذلك في سياق الشرط وهو مستقبل فإن كانت الآية نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فيوم بدر فرد من أفراد لقاء الكفار فيندرج فيه ولا يكون خاصاً به وإن كانت نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم في الاستقبال .

قال ابن عطية والجمهور على أنه إشارة إلى يوم اللقاء الذي تضمنه قوله { إذا لقيتم } وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بسبب الضعف الذي بيّنه الله في آية أخرى وليس في الآية نسخ وأما يوم أحد فإنما فرّ الناس من مراكزهم من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فرّ إنما انكشف أمام الكرة ويحتمل أن عفو الله عن مَن فرّ يوم أحد كان عفواً عن كثرة انتهى .

وقرأ الحسن { دبره } بسكون الباء وانتصب { متحرفاً } { ومتحيزاً } عن الحال من الضمير المستكن في قولهم العائد على { من } .

قال الزمخشري : وإلا لغو أو عن الاستثناء من المولين أي ومن { يولهم } إلا رجلاً منهم { متحرفاً } أو { متحيزاً } انتهى ، وقال ابن عطية : وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم من انتهى ولا يريد الزمخشري بقوله ولا لغو إنها زائدة إنما يريد أن العامل الذي هو { يولهم } وصل إلى العمل فيما بعدها كما قالوا في لا من قولهم جئت بلا زاد أنها لغو وفي الحقيقة هو استثناء من حالة محذوفة والتقدير : { ومن يولهم } ملتبساً بأية حالة إلا في حال كذا وإن لم يقدّر حال غاية محذوفة لم يصحّ دخول إلا لأن الشرط عندهم واجب وحكم الواجب لا تدخل إلا فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات لأنه يكون استثناء مفرغاً والاستثناء المفرغ لا يكون في الواجب لو قلت ضربت إلا زيداً وقمت إلا ضاحكاً لم يصحّ والاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي أو النهي أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك قدر عموم قبل إلا حتى يصح الاستثناء من ذلك العموم فلا يكون استثناء غير مفرغ ، وقال قوم الاستثناء هو من أنواع التّولي وردّ بأنه لو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً أو تحيّزاً والتحرّف للقتال هو الكرّ بعد الفرّ يخيل عدوّه أنه منهزم ثم ينعطف عليه وهو عين باب خِدَع الحرب ومكائدها قاله الزمخشري ، وقال يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدوّ وأعود عليه بالشر ، والفئة هنا قال الجمهور هي الجماعة من الناس الحاضرة للحرب فاقتضى هذا الإطراق أن تكون هذه الفئة من الكفار أي لكونه يرى أنه يُنكي فيها العدوّ ويبلي أكثر من إبلائه فيما قابله من الكفار إما لعدم مقاومته أو لكون غيره يعنى فيمن قاتله منهم فتحيّز إلى فئة أخرى من الكفار ليبلى فيها واقتضى أيضاً أن تكون هذه الفئة من المسلمين أي تحيّز إليها لينصرها ويقويها إذا رأى فيها ضعفاً وأغنى غيره في قتال من قاتله من الكفار وبهذا فسر الزمخشري قال { إلى فئة } جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها ، وقيل الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين أينما كانوا ، وروي هذا عن عمر : انهزم رجل من القادسيّة فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف ، فقال عمر رضي الله عنه عنه : أنا فئتك .

وعن ابن عمر رضي الله عنه : خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون .

فقال : بل أنتم العكارون وأنا فئتكم .

قال ثعلب العكارون العطّافون ، وقال غيره : يقال للرجل الذي يولّي عن الحرب لم يكن راجعاً عكر واعتكر .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الفرار من الزحف من أكبر الكبائر وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم « اتقوا السبع الموبقات » وعد فيها الفرار من الزحف وفي التحرير التولّي الذي وقع عليه الوعيد هو الفرار مع المصابرة على الثبات فأما إذا جاءه من لا يستطيع معه الثبات فليس ذلك بالفرار انتهى .

وما أحسن ما استعذر الحارث بن هشام إذ فرّ فقيل فيه :

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم *** ونجا برأس طمره ولجام

وقال الحرث من أبيات :

وعلمت أني إن أقاتل واحداً *** أقتل ولم يضرر عدوّي مشهدي

واستدلّ القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفسّاق من أهل الصلاة لأنها دلّت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ومأواه جهنم .

قال : وليس للمرجئة أن يحملوا ذلك على الكفار كما فعلوا في آيات الوعيد لأن ذلك مفتتح بأهل الصلاة وهو قوله { يا أيها الذين آمنوا } انتهى ، ولا حجة في ذلك لأنه عامّ مخصوص والظاهر أنه يجوز التحيّز سواء عظم العسكر أم لا ، وقيل لا يجوز إذا عظم والظاهر أنّ الفرار من الزحف بغير شروطه كبيرة للتوعد ولذلك قال ابن القاسم لا تقبلوا شهادة مَن فرّ مِن الزّحف وإن فر أمامهم ومَنن فرّ فليستغفر الله ففي الترمذي : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيُّوم غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف .