تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (16)

وقوله تعالى : ( فلا تولوهم الأدبار ) ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ) والمتحرف للقتال هو المنتقل من مكان إلى مكان للحرب ، والمتحيز إلى فئة هو الملتجئ إلى فئة على جهة العود إليهم والحرب ؛ يقال : تحوَّزْتُ ، وتَحَيَّزْتُ بالواو والياء جميعا ، وهو نحو الحرب . وفي النهي عن الانهزام والتولي عن العدو إلا ما ذكر من التحرف للقتالن والتحيز إلى الفتنة ، على جهة العود إليهم .

ثم أخبر أن من ولى دبره بسوى ما ذكى ( فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) قالت المعتزلة : دل ما أوعد المتحرف بغير قتال والمتحيز إلى غير الفئة بقوله : ( فقد باء بغضب من الله ) أن من ارتكب الكبيرة يخلد في النار لأنه ذكر في أول الآية المؤمنين ، /197-أ / ولهم خرج الخطاب بقوله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا وحفا ) ثم أوعد لهم الوعيد الشديد ما يوعد أهل النار غير أهل الإيمان بارتكاب الكبيرة ، ويخلد في النار . وقالوا : لا يجوز صرف الآية إلى أهل النفاق لما ذكر في القصة أنه لم يكن يوم بدر منافق .

لكن هذا غلط . قال الله تعالى : ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم )[ الأنفال49 ] وإنما قالوا ذلك يوم بدر كذلك ذكر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( إلا متحرفا لقتال أم متحيزا إلى فئة ) فإن كان المستثنى من قوله ( فقد باء بغضب من الله ) لم يكن فيه رخصة التولي ، ولكن فيه دفع الوعيد الذي ذكر ، وإن كان المستثنى من قوله ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ففيه رخصة التولي إلى ما ذكر .

ثم الدلالة على أنه مستثنى من هذا دون الأول ما جاء من غير واحد من الصحابة تولية الدبر إلى ما ذكر . وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أنا فئة لكل مسلم »[ أحمد2 : 99 ] .

وبعد فإنه لم يكن لأهل الإسلام فئة يوم بدر ، يتحيزون إليها ، فدل أنها في المنافقين وأهل الكفر ، والله أعلم .

ثم يقال : يجوز أن يكون ما ذكر من الوعيد لمعنى في التولية عن الدين والإعراض لا لنفس التولية عن الدين ؛ إذ قد ذكر التولية عن الدين في آية أخرى والعفو عن ذلك ، وهو وقوله تعالى : ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ) الآية[ آل عمران : 155 ] .

فإن قيل : لعل التوبة مضمرة فيه ، فعفا عنهم ، قيل : إن جاز أن يجعل التوبة مضمرة فيها جاز أن يضمر فيه التولية عن الدين الردة . فليست أولى بإضمار التوبة من هذه بإضمار الردة .

وفي الآية معان ، تدل على الإضمار إضمار ما يوجب الوعيد الذي ذكره ، والله أعلم .

أحدها : ذكر التحيز إلى الفئة ، وإن لم يكن للمسلم فئة يتحيز إليها . فإذا تحيز إنما يتحيز ليصير إلى العدو ، فهو الردة التي ذكرنا .

الثاني : ما ذكر في بعض القصة أنه لما اصطف القوم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ، فقال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا »[ مسلم1763 ] ومن هرب أو ولى الدبر عن مثل تلك الحال لم يول إلا لقصد ألا يعبد الله فقد كفر .

و الثالث : قد وعد لهم النصر والظفر على العدو ، فمن ولى الدبر[ في الأصل وم : عن الدبر ] لم يول إلا لتكذيب بالوعد الذي وعد لهم .