اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (16)

ثمَّ قال تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إلاَّ في هاتين الحالتين { فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ } في الآخرة { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } [ الأنفال : 16 ] .

فصل

قال أبو سعيد الخدري : هذا في أصحاب بدر خاصة ؛ لأن ما كان يجوز لهم الانهزام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولم يكن فئة يتحيّزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعده الله بالنّصر والظّفر فلم يكن لهم التحيّز إلى فئةٍ أخرى .

وأيضاً فإنَّ اللَّه شدد الأمر على أهل بدرٍ ؛ لأنه كان أول جهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه ، لزم منه الخلل العظيم .

فلهذا وجب التشديدُ والمبالغة ، ومنع اللَّهُ في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى لهذا السَّبب ، وهذا قول الحسنِ وقتادة والضحاك{[17224]} .

قال يزيدُ بن أبي حبيب : أوجب اللَّهُ النار لِمَنْ فَرَّ يوم بدر ، فلمَّا كان يوم أحد قال : { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم } [ آل عمران : 155 ] . ثم كان يوم حنين بعده فقال : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] .

ثم قال بعده { ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يشاء }{[17225]} [ التوبة : 27 ] .

وقال عبدُ الله بنُ عُمَرَ : " كُنَّا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص النَّاسُ حَيْصَةً ، فانْهَزَمْنَا ، فقُلْنَا يا رسول الله : نَحْنُ الفَرَّارُونَ ، فقال : " لا بَلْ أنتُمْ العَكَّارُونَ " أنَّا فِئَةُ المُسلمينَ {[17226]} .

وقال محمدُ بن سيرين : " لما قُتل أبو عبيدة جاء الخبر على عمر فقال : لو انحاز إليَّ كنتُ له فئةٌ فأنا فئةُ كلِّ مُسْلمٍ " {[17227]}

وقيل : حكم الآية عام في كل حرب ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " من الكبائر الفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ " والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب .

وقال عطاءُ بن أبي رباح : " هذه الآية منسوخةٌ بقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ }{[17228]} [ الأنفال : 66 ] فليس للقوم أن يفرُّوا من مثلهم فنسخت تلك إلاَّ في هذه العدة .

وعلى هذا أكثر أهل العلم أنَّ المسلمين إذا كانوا على الشطر من عددهم لا يجوز لهم الفرار إلاَّ مُتحرفاً أو مُتحيِّزاً إلى فئةٍ ، وإن كانوا أقلَّ من ذلك جاز لهم أن يولوا عنهم وينحازوا عنهم " . قال ابن عباس : " مَنْ فرَّ من ثلاثة فلم يفر ، ومن فَرَّ من اثنين فقد فرّ " {[17229]} .


[17224]:أخرجه أبو داود (2648) والنسائي في الكبرى (6/350، 351) والطبري في تفسيره (6/200) والحاكم (2/327) من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/314) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ وابن مردويه. وهو قول الحسن: أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/201) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/314) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والنحاس في ناسخه وأبي الشيخ. وقتادة: أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/201) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/314) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد. والضحاك: أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/201) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/314) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق في "المصنف" وابن أبي شيبة.
[17225]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/201) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/315) وزاد نسبته إلى ابن المنذر عن يزيد بن أبي حبيب.
[17226]:أخرجه أحمد (2/70، 100) وأبو داود (2/52-53) كتاب الجهاد: باب في التولي يوم الزحف حديث (2647).
[17227]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/201).
[17228]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/201) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/315) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وأبي الشيخ.
[17229]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/316) وعزاه للشافعي وابن أبي شيبة عن ابن عباس.