الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (16)

وكذا { دُبُرَه } مفعول ثان ل { يُوَلِّهم } : وقرأ الحسن بالسكون كقولهم " عُنْق " في عُنُق ، وهذا من باب التعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ مِنْ فاعلها فأتى بلفظ الدُّبُر دون الظَّهر لذلك . وبعضهم من أهل علم البيان سَمَّى هذا النوع كنايةً وليس بشيء .

قوله : { إلا مُتَحرِّفاً } في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه حال . والثاني : أنه استثناء . وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال : " فإن قلت : بمَ انتصبَ " إلا متحرِّفاً " ؟ قلت : على الحال ، و " إلا " لغوٌ ، أو على الاستثناء من المُوَلِّين ، أي : ومَنْ يُوَلِّهم إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً " . قال الشيخ : " لا يريد بقوله " إلا لغوٌ " أنها زائدة ، بل يريد أن العامل وهو " يُوَلِّهم " وَصَلَ لِما بعدها كقولهم في نحو " جئت بلا زاد " إنها لغو ، وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوفة والتقدير : ومَنْ يُوَلِّهم مُلْتبساً بأية حال إلا في حال كذا ، وإن لم تُقَدَّر حالٌ عامةٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ " إلا " لأنَّ الشرطَ عندهم واجبٌ ، والواجبُ حكمُه أن لا تدخلَ " إلا " فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات ، لأنه استثناءٌ مفرغ ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب إنما يكون مع النفي أو النهي ، أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤَوَّل " ، قلت : قوله : " لا في المفعول ولا في غيره من الفَضَلات " لا حاجةَ إليه ؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإِيجابِ مطلقاً سواءً كان ما بعد " إلا " فَضْلَةً أم عمدةً ، فَذِكْرُ الفَضْلةِ والمفعول/ يوهم جوازَه في غيرهما .

وقال ابن عطية : " وأمَّا الاستثناءُ فهو مِنَ المُوَلِّين الذين تتضمَّنهم " مَنْ " . فَجَعَلَ نَصْبَه على الاستثناء . وقال جماعة : إن الاستثناء من أنواع التولِّي . وقد رُدَّ هذا بأن لو كان كذلك لوَجَبَ أن يكونَ التركيبُ : إلا تحيُّزاً أو تحرُّفاً .

والتحيُّزُ والتَّجَوُّزُ : الانضمام . وتحوَّزَت الحَيَّة : انطوَتْ ، وحُزْتُ الشيء : ضَمَنْتُه . والحَوْزَةُ ما يَضُمُّ الأشياءَ . ووزنُ متحيِّز : مُتَفَيْعِل ، والأصل : مُتَحَيْوِز . فاجتمعت الياء والواو وسبقَتْ إحداهما بالسكون فقُلِبت الواو ياءً وأُدْغِمت في الياء بعدها كمَيِّت . ولا يجوز أن يكون مُتَفَعِّلاً لأنه لو كان كذا لكان متحوُّزاً ، فأمَّا متحوِّز فمتفعِّل .