قوله تعالى : { ثم آتينا موسى الكتاب } ، فإن قيل لم ؟ قال : ثم آتينا .
وحرف ( ثم ) للتعقيب ، وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن . قيل : معناه ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب ، فدخل ( ثم ) لتأخير الخبر لا لتأخير النزول .
قوله تعالى :{ تماماً على الذي أحسن } ، اختلفوا فيه ، قيل : تماماً على المحسنين من قومه ، فيكون ( الذي ) بمعنى ( من ) ، أي : على من أحسن من قومه ، وكان بينهم محسن ومسيء ، يدل عليه قراءة ابن مسعود : { على الذين أحسنوا } ، وقال أبو عبيدة : معناه على كل من أحسن ، أي : أتممنا فضيلة موسى بالكتاب على المحسنين ، يعني : أظهرنا فضله عليهم ، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون ، وقيل : ( الذي أحسن ) هو موسى ، و( الذي ) بمعنى ما ، أي : على ما أحسن موسى ، تقديره : آتيناه الكتاب ، يعني التوراة ، إتماماً عليه للنعمة ، لإحسانه في الطاعة والعبادة ، وتبليغ الرسالة ، وأداء الأمر . وقيل : الإحسان بمعنى العلم ، وأحسن بمعنى علم ، ومعناه : تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة ، أي آتيناه الكتاب زيادة على ذلك . وقيل : معناه تماماً مني على إحساني إلى موسى .
قوله تعالى : { وتفصيلاً } ، بياناً .
قوله تعالى : { لكل شيء } ، يحتاج إليه من شرائع الدين .
قوله تعالى : { وهدىً ورحمةً } ، هذا في صفة التوراة .
قوله تعالى : { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } ، قال ابن عباس : كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب .
قال ابن جرير : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } تقديره : ثم قل - يا محمد - مخبرًا عنا بأنا آتينا موسى الكتاب ، بدلالة قوله : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }
قلت : وفي هذا نظر ، وثُم هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر ، لا للترتيب هاهنا ، كما قال الشاعر :
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُم سَادَ أبوهُ *** ثُمّ قد سَادَ قَبْلَ ذَلكَ جَده{[11410]}
وهاهنا لما أخبر الله تعالى عن القرآن بقوله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } عطف بمدح التوراة ورسولها ، فقال : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } وكثيرًا ما يقرن سبحانه{[11411]} بين ذكر القرآن والتوراة ، كقوله تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا } [ الأحقاف : 12 ] ، وقوله [ في ]{[11412]} أول هذه السورة : { قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا } [ الآية : 91 ] ، وبعدها { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ } الآية [ الأنعام : 92 ] ، وقال تعالى مخبرًا عن المشركين : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } [ القصص : 48 ] ، وقال تعالى مخبرًا عن الجن أنهم قالوا : { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ] }{[11413]} [ الأحقاف : 30 ] .
وقوله تعالى : { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا } أي : آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تمامًا كاملا جامعا لجميع ما يحتاج إليه في شريعته ، كما قال : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } الآية [ الأعراف : 145 ] .
وقوله : { عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } أي : جزاء على إحسانه في العمل ، وقيامه بأوامرنا وطاعتنا ، كقوله : { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ] ، وكقوله { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ] }{[11414]} [ البقرة : 124 ] ، وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } يقول : أحسن فيما أعطاه الله .
وقال قتادة : من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الآخرة .
واختار ابن جرير أن تقديره الكلام : { [ ثُمَّ ] آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا }{[11415]} على إحسانه . فكأنه جعل " الذي " مصدرية ، كما قيل في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } [ التوبة : 69 ] أي : كخوضهم وقال ابن رَوَاحة :
فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاكَ مِنْ حَسَنٍ *** في المرسلين ونصرًا كالذي نُصِرُوا{[11416]}
وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى " الذين " .
قال ابن جرير : وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود : أنه كان يقرؤها : " تماما على الذين أحسنوا " .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } قال : على المؤمنين والمحسنين ، وكذا قال أبو عبيدة . قال البغوي : والمحسنون : الأنبياء والمؤمنون ، يعني : أظهرنا فضله عليهم .
قلت : كما قال تعالى : { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي } [ الأعراف : 144 ] ، ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل ، عليهما السلام لأدلة أخر .
قال ابن جرير : وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يَعْمَر أنه كان يقرؤها . { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ } رفعا ، بتأويل : " على الذي هو أحسن " ، ثم قال : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها ، وإن كان لها في العربية وجه صحيح .
وقيل : معناه : تمامًا على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن الله إليه ، حكاه ابن جرير ، والبَغوي .
ولا منافاة بينه وبين القول الأول ، وبه جمع ابن جرير كما بيناه ، ولله الحمد .
وقوله : { وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً } فيه مَدْحٌ لكتابه الذي أنزله الله عليه ، { لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }
{ ثم آتينا موسى الكتاب } عطف على { وصاكم } ، وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ؛ ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك { إنا آتينا موسى الكتاب } . { تماما } للكرامة والنعمة . { على الذي أحسن } على كل من أحسن القيام به ، ويؤيده إن قرئ " على الذين أحسنوا " أو " على الذي أحسن تبليغه " وهو موسى عليه أفضل الصلاة والسلام ، أو " تماما على ما أحسنه " أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماما له . وقرئ بالرفع على أن خبر مبتدأ محذوف أي " على الذي هو أحسن " أو على الوجه الذي هو حسن ما يكون عليه الكتب . { وتفصيلا لكل شيء } وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين ، وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر . { وهدى ورحمة لعلهم } لعل بني إسرائيل . { بلقاء ربهم يؤمنون } أي بلقائه للجزاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.