إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ثُمَّ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ يُؤۡمِنُونَ} (154)

{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } كلامٌ مسوقٌ من جهته تعالى تقريراً للوصية وتحقيقاً لها وتمهيداً لما يعقُبه من ذكر القرآنِ المجيد كما ينبئ عنه تغييرُ الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ ويستدعيه النظامُ كأنه قيل بعد قوله تعالى : { ذلكم وصاكم بِهِ } [ الأنعام ، الآية 151 و152 و153 ] بطريق الاستئنافِ تصديقاً له وتقريراً لمضمونه : فعلنا ذلك ثم آتينا الخ ، كما أن قوله تعالى : { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } [ الأعراف ، الآية 100 ] معطوف على ما يدل عليه معنى { أَوَ لَمْ يَهْدِ } [ الأعراف ، الآية 100 ] الخ ، كأنه قيل : يغفُلون عن الهداية ونطبع الخ ، وأما عطفُه على ذلكم وصاكم به ونظمُه معه في سلك الكلامِ الملقّن كما أجمع عليه الجمهورُ فمما لا يليق بجزالة النظمِ الكريم فتدبر . وثم للتراخي في الإخبار كما في قولك : بلغني ما صنعتَ اليوم ثم ما صنعتَ أمسِ أعجبُ ، أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل : ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظمُ من ذلك أنا آتينا موسى التوراةَ فإن إيتاءَها مشتملةً على الوصية المذكورةِ وغيرِها أعظمُ من التوصية بها فقط { تَمَامًا } للكرامة والنعمة أي إتماماً لهما على أنه مصدرٌ من أتمّ بحذف الزوائد { عَلَى الذي أَحْسَنَ } أي على مَنْ أحسن القيامَ به كائناً مَنْ كان ، ويؤيده أنه قرئ ( على الذين أحسنوا ) وتماماً على المحسنين أو على الذي أحسن تبليغَه وهو موسى عليه السلام أو تماماً على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائعِ أي زيادةً على علمه على وجه التتميم ، وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي على الذي هو أحسنُ دينٍ وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسنَ ما يكون عليه الكتُب { وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شيء } وبياناً مفصلاً لكل ما يُحتاج إليه في الدين وهو عطفٌ على تماماً ونصبُهما إما على العلية أو على المصدرية كما أشير إليه أو على الحالية وكذا قوله تعالى : { وَهُدًى وَرَحْمَةً } وضميرُ { لَعَلَّهُمْ } لبني إسرائيلَ المدلولِ عليهم بذكر موسى وإيتاءِ الكتاب والباء في قوله تعالى : { بِلَقَاء رَبّهِمْ } متعلقةٌ بقوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ } قدمت عليه محافظةً على الفواصل قال ابن عباس رضي الله عنهما : كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب .