قوله تعالى : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن } ، الآية . قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في بنات أم كحة وميراثهن عن أبيهن ، وقد مضت القصة في أول السورة ، وقالت عائشة رضي الله عنها : هي اليتيمة ، تكون في حجر الرجل ، وهو وليها ، فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنة صداقها ، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركها ، وفي رواية : هي اليتيمة ، تكون في حجر الرجل ، قد شركته في ماله ، فيرغب عنها أن يتزوجها لدمامتها ، ويكره أن يزوجها غيره ، فيدخل عليه في ماله ، فيحبسها حتى تموت ، فيرثها ، فنهاهم الله عن ذلك .
قوله تعالى : { ويستفتونك }أي : يستخبرونك .
قوله تعالى : { في النساء قل الله يفتيكم فيهن } .
قوله تعالى : { وما يتلى عليكم في الكتاب } ، قيل معناه : ويفتيكم في ما يتلى عيكم ، وقيل : معناه : نفتيكم ما يتلى عليكم ، يريد الله يفتيكم فيهن . وكتابه يفتيكم فيهن ، قوله عز وجل : { وآتوا اليتامى أموالهم } .
قوله تعالى : { في يتامى النساء } ، هذا إضافة الشيء إلى نفسه ، لأنه أراد باليتامى النساء .
قوله تعالى : { اللاتي لا تؤتونهن } ، أي : لا تعطونهن .
قوله تعالى : { ما كتب لهن } ، من صداقهن .
قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } . أي في نكاحهن ، لمالهن وجمالهن بأقل من صداقهن ، وقال الحسن وجماعة : أراد لا تؤتونهن حقهن من الميراث ، لأنهم كانوا لا يورثون النساء .
قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } . أي : عن نكاحهن لدمامتهن .
قوله تعالى : { والمستضعفين من الولدان } . يريد : ويفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار ، أن تعطوهم حقوقهم ، لأنهم كانوا لا يورثون الصغار . يريد : ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله { وآتوا اليتامى أموالهم } يعني بإعطاء حقوق الصغار .
قوله تعالى : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } أي : ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط بالعدل في مهورهن ، ومواريثهن .
قوله تعالى : { وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً } ، يجازيكم عليه .
قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة ، أخبرني أبي{[8410]} عن عائشة : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } إلى قوله : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة ، هو وليها ووارثها قد شَرِكته في ماله ، حتى في العَذْق ، فيرغب أن ينكحها ، ويكره أن يزوِّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها ، فنزلت هذه الآية .
وكذلك رواه مسلم ، عن أبي كُرَيب ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن أبي أسامة{[8411]} .
وقال ابن أبي حاتم : قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير ، قالت عائشة : ثم إن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } الآية ، قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله [ تعالى ]{[8412]} { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } [ النساء : 3 ] .
وبهذا الإسناد ، عن عائشة قالت : وقول الله عز وجل : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن .
وأصله ثابت في الصحيحين ، من طريق يونس بن يزيد الأيْلي ، به{[8413]} .
والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها ، فتارة يرغب في أن يتزوجها ، فأمره الله عز وجل أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء ، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء ، فقد وسع الله عز وجل . وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة . وتارة لا يكون للرجل فيها رغبة لِدَمَامَتِهَا عنده ، أو في نفس الأمر ، فنهاه الله عز وجل أن يُعضِلها عن الأزواج خشية أن يَشْركوه في ماله الذي بينه وبينها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فِي يَتَامَى النِّسَاء [ اللاتي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ]{[8414]} } الآية ، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة ، فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل ذلك [ بها ]{[8415]} لم يقدر أحد أن يتَزَوّجها أبدًا ، فإن كانت جميلة وهويها تَزَوَّجَها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها . فَحَرَّم الله ذلك ونهى عنه .
وقال في قوله : { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات ، وذلك قوله : { لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فنهى الله عن ذلك ، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه ، فقال : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } [ النساء : 11 ] صغيرًا أو كبيرًا .
وكذا قال سعيد بن جبير وغيره ، قال سعيد بن جبير في قوله : { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك إذا لم تكن ذات جمال ولا مال فأنكحها واستأثر بها .
وقوله : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } تهييجًا{[8416]} على فعل الخيرات وامتثال الأمر{[8417]} وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويستفتونك في النساء} نزلت في سويد وعرفطة ابني الحارث، وعيينة بن حصن الفزاري، وذلك أنه لما فرض الله عز وجل لأم كحة وبناتها الميراث انطلق سويد وعرفطة وعيينة بن حصن الفزاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المرأة لا تركب فرسا ولا تجاهد، وليس عند الولدان الصغار منفعة في شيء، فأنزل الله عز وجل فيهم: {ويستفتونك}: يسألونك عن النساء، يعني سويدا وصاحبيه، {قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب}: ما بين من القسمة في أول هذه السورة، قال: ويفتيكم {في يتامى النساء}: بنات أم كحة {اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن}: ما فرض لهن من أنصبائهن من الميراث في أول السورة.
{وترغبون أن تنكحوهن}، يعني بنات أم كحة، وكان الرجل يكون في حجره اليتيمة ولها مال، ويكون فيها موق، فيرغب عن تزويجها، ويمنعها من الأزواج من أجل ما لها رجاء أن تموت فيرثها، فذلك قوله عز وجل: {وترغبون أن تنكحوهن} لدمامتهن، {و} يفتيكم في {والمستضعفين من الولدان} أن تعطوهم حقوقهم، وكانوا لا يورثونهم {و} يفتيكم {وأن تقوموا لليتامى} في الميراث،
{وما تفعلوا من خير} مما أمرتم به من قسمة المواريث، {فإن الله كان به عليما} فيجزيكم به...
- ابن العربي: روى أشهب عن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب، حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله، قال الله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176]. {ويسألونك عن اليتامى} [البقرة: 220]. و {يسألونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219]. {ويسألونك عن الجبال} [طه: 105]. هذا في كتاب الله سبحانه وتعالى كثير...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ} ويسألك يا محمد أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء، والواجب لهنّ وعليهنّ. فاكتفى بذكر النساء من ذكر شأنهنّ، لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه.
{قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} قل لهم يا محمد: الله يفتيكم فيهنّ، يعني في النساء. {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ فِي يَتامَى النّساءِ الّلاتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ}.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}؛ فقال بعضهم: يعني بقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} قل الله يفتيكم فيهنّ، وفيما يتلى عليكم، قالوا: والذي يتلى عليهم هو آيات الفرائض، التي في أوّل هذه السورة. عن ابن عباس،قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة¹ فلما كان الإسلام قال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} في أوّل السورة في الفرائض اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب الله لهن.
عن عائشة، قالت: هذا في اليتيمة تكون عند الرجل لعلهم أن تكون شريكته، في ماله، وهو أولى بها من غيره، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لمالها ولا ينكحها غيره كراهية أن يشركه أحد في مالها.
وقال آخرون: معنى ذلك: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهنّ، وفيما يتلى عليكم في الكتاب في آخر سورة النساء، وذلك قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَة}... إلى آخر السورة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهنّ وفيما يتلى عليكم في الكتاب، يعني في أوّل هذه السورة، وذلك قوله: {وَإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِي اليَتامَى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النّساءِ}. فعلى هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها «ما» التي في قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في موضع خفض بمعنى العطف على الهاء والنون التي في قوله: {يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} فكأنهم وجهوا تأويل الآية: قل الله يفتيكم أيها الناس في النساء، وفيما يتلى عليكم في الكتاب.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من أصحابه سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها، فأفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما تركوا المسألة عنه. عن محمد بن أبي موسى في هذه الآية: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ} قال: استفتوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في النساء، وسكتوا عن شيء كانوا يفعلونه، فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّساءِ، قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} ويفتيكم فيما لم تسألوا عنه. قال: كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة، ولا يدفعون إليها مالها فتنفق، فنزلت: {قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي النّساءِ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ} قال: والمستضعفين من الولدان. قال: كانوا يورثون الأكابر ولا يورثون الأصاغر، ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه، فقال: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ أعْرَاضا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحا وَالصّلْحُ خَيْرٌ}، ولفظ الحديث لابن المثنى.
فعلى هذا القول الذي يتلى علينا في الكتاب الذي قال الله جل ثناؤه: {قُلِ اللّهُ يُفْتيكُمْ فِيهِنّ وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ}: {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا}... الآية، والذي سأل القوم فأجيبوا عنه في يتامى النساء اللاتي كانوا لا يؤتونهنّ ما كتب الله لهنّ من الميراث عمن ورثنه عنه.
وأولى هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معنى قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}: وما يتلى عليكم من آيات الفرائض في أوّل هذه السورة وآخرها.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الصداق ليس مما كتب للنساء إلا بالنكاح، فما لم تنكح فلا صداق لها قِبَلَ أحَد، وإذا لم يكن ذلك لها قِبَل أحد لم يكن مما كتب لها، وإذا لم يكن مما كتب لها، لم يكن لقول قائل عني بقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}: الإقساط في صدقات يتامى النساء وجه، لأن الله قال في سياق الآية مبينا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ، فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء أمر اليتيمة المحول بينها وبين ما كتب الله لها، والصداق قبل عقد النكاح ليس مما كتب الله لها على أحد، فكان معلوما بذلك أن التي عنيت بهذه الآية هي التي قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب الله. فإذا كان ذلك كذلك، كان معلوما أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه الله لهن في كتابه. فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى، فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل، بعيد مما يدلّ عليه ظاهر التنزيل، وذلك أنه زعم أن الذي عنى الله بقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ} هو {وَإنِ امْرأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزا أوْ إعْرَاضا}، وإذا وجه الكلام إلى المعنى الذي تأوّله صار الكلام مبتدأ من قوله: {في يَتامَى النّساءِ اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنّ ما كُتِبَ لَهُنّ} ترجمة بذلك عن قوله {فِيهِنّ} ويصير معنى الكلام: قل الله يفتيكم فيهن في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهنّ، ولا دلالة في الآية على ما قاله، ولا أثر عمن يعلم بقوله صحة ذلك. وإذا كان ذلك كذلك، كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى ما وجد إليه سبيل. فإذا كان الأمر على ما وصفنا، فقوله: {فِي يَتامَى النّساءِ} بأن يكون صلة لقوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أولى من أن يكون ترجمة عن قوله: {قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ} لقربه من قوله: {وَما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتابِ}، وانقطاعه عن قوله: {يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ}. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهنّ، وفيما يتلى عليكم فِي كتابِ الله الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا تعطونهنّ ما كتب لهنّ، يعني: ما فرض الله لهنّ من الميراث عمن ورثنه.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنّ}؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وترغبون عن نكاحهنّ. وقال آخرون: معنى ذلك: وترغبون في نكاحهنّ فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقى عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوّجها أبدا، فإن كانت جميلة وهويها تزوّجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدا حتى تموت فإذا ماتت ورثها، فحرّم الله ذلك ونهى عنه.
وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: وتَرْغَبُونَ عَنْ أنْ تَنْكِحُوهُنّ، لأن حبسهم أموالهن عنهنّ، مع عضلهم إياهنّ إنما كان ليرثوا أموالهن دون زوج إن تزوّجن. ولو كان الذين حبسوا عنهنّ أموالهنّ إنما حبسوها عنهنّ رغبة في نكاحهنّ، لم يكن للحبس عنهنّ وجه معروف، لأنهم كانوا أولياءهن، ولم يكن يمنعهم من نكاحهنّ مانع فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها ليتخذ حبسها عنها سببا إلى إنكاحها نفسها منه.
{وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ وأنْ تَقُومُوا لليَتامَى بالقِسْطِ}: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهنّ وفيما يتلى عليكم في الكتاب، وفي المستضعفين من الولدان، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى، والذي أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث لأنهم كانوا لا يورثون الصغار من أولاد الميت، وأمرهم أن يقسطوا فيهم فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم الله لهم في كتابه. فقيامهم لليتامى بالقسط كان العدل فيما أمر الله فيهم.
{وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنّ اللّهَ كانَ بِهِ عَلِيما}: ومهما يكن منكم أيها المؤمنون من عدل في أموال اليتامى التي أمركم الله أن تقوموا فيهم بالقسط، والانتهاء إلى أمر الله في ذلك، وفي غيره، وإلى طاعته، فإن الله كان به عليما لم يزل عالما بما هو كائن منكم، وهو محصٍ ذلك كله عليكم، حافظ له، حتى يجازيَكم به جزاءكم يوم القيامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن...}. ذكر الاستفتاء في النساء، وليس فيه بيان عما وقع به السؤال؛ إذ قد يجوز أن يكون في الجواب بيان المراد في السؤال نحو قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} (البقرة: 222) دل الأمر باعتزال عن النساء في المحيض، وعلى أن السؤال عن المحيض إنما كان في الاعتزال، وإن لم يكن في السؤال بيان المراد...
ثم قوله تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} ليس في السؤال ولا في الجواب بيان ما وقع به السؤال في أمورهن جميعا في الميراث وغير ذلك من الحقوق...
فترك البيان في الجواب لما ذكر واحدا فواحدا في غيرها من الآي... ويحتمل غير هذا، وهو أن يترك البيان في السؤال والجواب لنوازل يعرفها أهلها لم يحتج إلى بيان ما وقع به السؤال لمعرفة أهلها به...
وقوله تعالى: {وترغبون أن تنكحوهن} دلالة أن للولي أن يزوج اليتيمة الصغيرة لأنه لو لم يكن أن يتزوجها لم يكن لهذا العتاب على ترك تزويجها من غيره معنى...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فيه قولان...
والثاني: أنهم كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهن ويتملكها أولياؤهن، فلما نزل قوله تعالى: {وَءَاتُوا النِّسَاءَ صَدقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية...
قوله تعالى: {اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} يعني ما فرض لهن من الصداق وهو قول عائشة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نهاهم عن الطمع الذي يحملهم على الحيف والظلم على المستضعفين من النِّسْوان واليتامى، وبَيَّنَ أنَّ المنتقِمَ به لهم الله، فَمَنْ راقب الله فيهم لم يخسر على الله بل يجد جميل الجزاء، ومن تجاسر عليهم قاسى لذلك أليمَ البلاء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي الله يفتيكم والمتلوّ {فِي الكتاب} في معنى اليتامى، يعني قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} [النساء: 3]، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ تعظيماً للمتلو عليهم، وأن العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند الله التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها، والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه الله. ونحوه في تعظيم القرآن: {وَإِنَّهُ فِي أُمّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] ويجوز أن يكون مجروراً على القسم، كأنه قيل: قل الله يفتيكم فيهنّ، وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب. والقسم أيضاً لمعنى التعظيم، وليس بسديد أن يعطف على المجرور في (فيهنّ)، لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى، فإن قلت بم تعلق قوله: {فِي يتامى النساء}؟ قلت: في الوجه الأوّل هو صلة (يتلى) أي يتلى عليكم في معناهن. ويجوز أن يكون (في يتامى النساء) بدلاً من (فيهن) وأما في الوجهين الآخرين فبدل لا غير...
وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه وما لها. فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} يحتمل في أن تنكحوهن لجمالهن، وعن أن تنكحوهن لدمامتهن. وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر، فإن كانت جميلة غنية قال: زوّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك، وإن كانت دميمة ولا مال لها قال: تزوجها فأنت أحق بها.
{والمستضعفين} مجرور معطوف على يتامى النساء، وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء. ويجوز أن يكون خطاباً للأوصياء كقوله: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} [النساء: 2] {وَأَن تَقُومُواْ} مجرور كالمستضعفين بمعنى: يفتيكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين. وفي أن تقوموا. ويجوز أن يكون منصوباً بمعنى: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم.
اعلم أن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه وهو أنه يذكر شيئا من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة إلهيته. ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام، وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع في موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالوعد والوعيد، والوعد والوعيد لا يؤثر في القلب إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد، فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق. إذا عرفت هذا فنقول: إنه سبحانه ذكر في أول هذه السورة أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف، ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك، ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه، ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن}... وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها، وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها. وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان سبحانه وتعالى قد رتب هذا الكتاب على أنه يذكر أحكاماً من الأصول والفروع، ثم يفصلها بوعد ووعيد وترغيب وترهيب، وينظمها بدلائل كبريائه وجلاله وعظيم بره وكماله، ثم يعود إلى بيان الأحكام على أبدع نظام لأن إلقاء المراد في ذلك القالب أقرب إلى القبول، والنظم كذلك أجدر بالتأثير في القلوب، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا تنقاد له النفوس إلا إذا كان مقروناً ببشارة ونذارة، وذلك لا يؤثر إلا عند القطع بغاية الكمال لمن صدر عنه ذلك المقال، ولا ينتقل مع ذلك من أسلوب إلى آخر إلا على غاية ما يكون من المناسبة بين آخر كل نوع وأول ما بعده بكمال التعلق لفظاً ومعنى، وفعل سبحانه وتعالى في هذه السورة في أحكام العدل الذي بدأ السورة به في المواصلة التي مبناها النكاح والإرث وغير ذلك مما اتصل به -كما بين- إلى أن ختم هنا بالإسلام المثمر لقبول ذلك كله وعظمة الملك الموجبة لتمام الإسلام، وقامت البراهين وسطعت الحجج، وكان من أعظم مقاصد السورة العدل في الضعفاء من الأيتام وغيرهم في الميراث وغيره، وكان توريث النساء والأطفال -ذكوراً كانوا أو إناثاً- مما أبته نفوسهم، وأشربت بغضه قلوبهم، وكان التفريق في إثبات ما هذا سبيله أنجع، وإلقاؤه شيئاً فشيئاً في قوالب البلاغة أنفع؛ وصل بذلك قوله تعالى: {ويستفتونك} في جملة حالية من اسم الجلالة التي قبلها، أي له ما ذكر فلا مساغ للاعتراض عليه والحال أنهم يسألونك طلباً لأن تتفتى عليهم بالجواب في بعض ما أعطى من ملكه لبعض مخلوقاته {في النساء} طمعاً في الاستئثار عليهم بالمال وغيره محتجين بأنه لا ينبغي أن يكون المال إلا لمن يحمي الذمار والحال أنهم قد عبدوا من دونه إناثاً، وجعلوا لهم مما خولهم فيه من الرزق الذي ملكهم له بضعف من الحرث والأنعام نصيباً، فلا تعجب من حال من كرر الاستفتاء -الذي لا يكون في العرف غالباً إلا فيما فيه اعتراض- في إناث أحياء وأطفال ذكور وأعطاهم المِلك التام المُلك العظيم المِلك بعض ما يريد، ولم يعترض على نفسه حيث أعطى إناثاً لا حياة لها ولا منفعة مما في يده، وملكه في الحقيقة لغيره، ولم يأذن فيه المالك ما لا ينتفع به المعطي. ولما كان المقام بكثرة الاستفتاء محتاجاً إلى زيادة الاعتناء قال: {قل الله} آمراً معبراً بالاسم الأعظم منبهاً على استحضار ما ذكر أول السورة {يفتيكم} أي يبين لكم حكمه {فيهن} أي الآن لأن تقوموا لهن بالقسط {وما} أي مع ما {يتلى عليكم} أي تجدد فيكم تلاوته إلى آخر الدهر سيفاً قاطعاً وحكماً ماضياً جامعاً {في الكتاب} أي فيما سبق أول السورة في قوله: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وغير ذلك {في يتامى النساء} أي في شأن اليتامى من هذا الصنف {اللاّتي لا تؤتونهن} أي بسبب التوقف في ذلك و تكرير الاستفتاء عنه {ما كتب لهن} أي ما فرض من الميراث وسائر الحقوق فرضاً وهو في غاية اللزوم {وترغبون أن} أي في أن أو عن أن {تنكحوهن} لجمالهن أو لدمامتهن {و} يفتيكم في {المستضعفين} أي الموجود ضعفهم والمطلوب إضعافهم، يمنعهم حقوقهم {من الولدان}. ولما كان التقدير؛ في أن تقوموا لهم بالقسط، أي في ميراثهم وسائر حقوقهم ولا تحقروهم لصغرهم؛ عطف عليه قوله: {وأن تقوموا} أي تفعلوا فيه من القوة والمبادرة فعل القائم المنشط {لليتامى} من الذكور والإناث {بالقسط} أي بالعدل من الميراث وغيره. ولما كان التقدير: فما تفعلوا في ذلك من شر فإن الله كان به عليماً وعليكم قديراً؛ عطف عليه قوله ترغيباً: {وما تفعلوا من خير} أي في ذلك أو في غيره {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {كان به عليماً} أي فهو جدير -وهو أكرم الأكرمين وأحكم الحاكمين- بأن يعطي فاعله على حسب كرمه وعلو قدره، فطيبوا نفساً وتقروا عيناً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تقدم أن الكلام كان من أول السورة إلى ما قبل قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن آية {واعبدوا الله} إلى آخر ما تقدم تفسيره في أحكام عامة أكثرها في أصول الدين وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال. وقد جاءت هذه الآيات بعد ذلك في أحكام النساء فهي من جنس الأحكام التي في أول السورة. ولعل الحكمة في وضعها ههنا تأخر نزولها إلى أن شعر الناس بعد العمل بتلك الآيات بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام، فإنهم كانوا يهضمون حقوق الضعيفين ـ المرأة واليتيم ـ كما تقدم فأوجبت عليهم تلك الآيات مراعاتها وحفظها وبينتها لهم، وجعلت للنساء حقوقا ثابتة مؤكدة في المهر والإرث كالرجال وحرمت ظلمهن، وتعدد الزوجات منهن، مع الخوف من عدم العدل بينهن، وحددت العدد الذي يحل منهن في حال عدم الخوف من الظلم، فبعد تلك الأحكام عرف النساء حقوقهن، وأن الإسلام منع الرجال الأقوياء أن يظلموهن، فكان من المتوقع بعد الشروع في العمل بتلك الأحكام أن يعرف الرجال شدة التبعة التي عليهم في معاملة النساء وأن يقع لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها، كأن تحدث بعضهم نفسه بأن يحل له أو لا يحل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث وهو يرغب أن ينكحها، ويشتبه بعضهم فيما يصالح امرأته عليه إذا أرادت أن تفتدي منه، ويضطرب بعضهم في حقيقة العدل الواجب بين النساء: هل يدخل فيه العدل في الحب أو في لوازمه العملية الطبيعية من زيادة الإقبال على المحبوبة والتبسط في الاستمتاع بها أم لا؟. كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فهو مما كان يكون موضع السؤال والاستفتاء، فلهذا جاء بهذه الآيات بعد طائفة من الآيات وطائفة من الزمان، وقد علمنا من سنة القرآن عدم جمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد في سياق واحد، لأن المقصد الأول من القرآن هو الهداية بأن تكون تلاوته عظة وذكرى وعبرة ينمي بها الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، وبسننه في خلقه، وحكمته في عباده، ويقوي بها شعور التعظيم والحب له، وتزيد الرغبة في الخير، والحرص على التزام الحق، ولو طال سرد الآيات في موضوع أحكام المعاملات البشرية ـ لمل القارئ لها في الصلاة وغير الصلاة، أو غلب على قلبه التفكر في جزئياتها ووقائعها، فيفوت بذلك المقصد الأول، والمطلوب الذي عليه المعول، وحسب طلاب الأحكام المفصلة فيه أن يرجعوا إليها عند الحاجة في الآيات المتفرقة، والسور المتعددة، ولا يجعلونها هي الأصل المقصود من التلاوة في الصلاة وللتعبد في غير الصلاة، فإن الأصل الأول هو ما علمت.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل التام، وهذا يشمل القيام عليهم بإلزامهم أمر الله وما أوجبه على عباده، فيكون الأولياء مكلفين بذلك، يلزمونهم بما أوجبه الله. ويشمل القيام عليهم في مصالحهم الدنيوية بتنمية أموالهم وطلب الأحظ لهم فيها، وأن لا يقربوها إلا بالتي هي أحسن، وكذلك لا يحابون فيهم صديقا ولا غيره، في تزوج وغيره، على وجه الهضم لحقوقهم. وهذا من رحمته تعالى بعباده، حيث حثّ غاية الحث على القيام بمصالح من لا يقوم بمصلحة نفسه لضعفه وفقد أبيه. ثم حثّ على الإحسان عموما فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ْ} لليتامى ولغيرهم سواء كان الخير متعديا أو لازما {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ْ} أي: قد أحاط علمه بعمل العاملين للخير، قلة وكثرة، حسنا وضده، فيجازي كُلًّا بحسب عمله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
علاج رواسب الجاهلية فيما يختص بالمرأة والأسرة هذا الدرس تكمله لما بدأت به السورة من علاج رواسب المجتمع الجاهلي، فيما يختص بالمرأة والأسرة؛ وفيما يختص بمعاملة الضعاف في المجتمع كاليتامى والأطفال. وتنقية المجتمع المسلم من هذه الرواسب؛ من الجاهلية، وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وعادات وأوضاع وأحكام. مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغيير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم. أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يدي الإسلام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف تشريع على إيمان وحكمة وعظة. ولعلّ هذا الاستفتاء حدث حين نزول الآيات السابقة. فذكر حكمه عقبها معطوفاً. وهذا الاستفتاء حصل من المسلمين بعد أن نزل قوله تعالى: {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] الخ...
فالمراد: ويستفتونك في أحكام النساء إذ قد علم أنّ الاستفتاء لا يتعلّق بالذوات، فهو مثل قوله: {حرّمت عليكم أمّهاتكم} [النساء: 23]. وأخصّ الأحكام بالنساء: أحكام ولايتهنّ، وأحكام معاشرتهنّ. وليس المقصود هنا ميراث النساء إذ لا خطور له بالبال هنا. وقوله: {قل الله يفتيكم فيهن} وعد باستيفاء الإجابة عن الاستفتاء، وهو ضرب من تبشير السائل المتحيّر بأنّه قد وجد طلبته، وذلك مثل قولهم: على الخبير سقطت. وقوله تعالى: {سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً} [الكهف: 78]. وتقديم اسم الجلالة للتنويه بشأن هذه الفتيا. وقوله: {وما يتلى عليكم} عطف على اسم الجلالة، أي ويفتيكم فيهنّ ما يتلى عليكم في الكتاب، أي القرآن، وإسناد الإفتاء إلى ما يُتلى إسناد مجازي، لأنّ ما يتلى دالّ على إفتاء الله فهو سبب فيه، فآل المعنى إلى: قل الله يفتيكم فيهنّ بما يتلى عليكم في الكتاب، والمراد بذلك بما تلي عليهم من أوّل السورة، وما سيتلى بعد ذلك، فإنّ التذكير به وتكريره إفتاء به مرّة ثانية، وما أتبع به من الأحكام إفتاء أيضاً...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
تعرضت سورة النساء لأحكام الأسرة في أولها، وبينت أحكام المواريث، والعلاقات المحرمة للزواج ثم أشار سبحانه إلى حق الرجل وحق المرأة في الأسرة، وتعرضت من بعد ذلك للعلاقات الاجتماعية بين الناس، وبينت أن أساسها إقامة العدالة وتنفيذ أحكام الله تعالى ثم ذكرت أدواء الجماعات، وأساسها الاعتداء من الخارج بالحروب ومن الداخل بالنفاق وما يتبعه من فساد خلقي وانحلال نفسي وتعرضت من بعد ذلك لسبب الاعتداء والشرك والنفاق وهو تحكم الشيطان في النفوس. ومن بعد ذلك عاد إلى بيان العلاقة بين الزوجين وفقه علاجها، وعلاقة آحاد الأسرة والطب لأدواء الضعف بينهم. وفي خلط أحكام الأسرة والعلاقات فيها، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية العامة إشارة إلى قيام المجتمع على الأسرة وأن صلاحها صلاح له، وأنه من الأخلاق الاجتماعية الفاسدة تجيء آفات الأسرة، ومن قوة العلاقات الأسرية تجيء قوة المجتمع المتماسكة، فرعاية ضعفاء الأسرة توجد قوة للأمة تشترك في حماية زمارها، ومن إهمالها تكون عناصر مقوضة لبنائها والآيات التي نتكلم في معانيها مبينة علاج الضعفاء والعناية بهم،... ولم تكن رعاية الله تعالى في أحكامه خاصة بيتامى النساء، بل إنها تعم المستضعفين وسائر اليتامى، ولذا قال سبحانه: {والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط} وصيتان بنوع واحد من الضعفاء في الأسر وهم اليتامى بيد أن إحداهما مؤداها إعطاؤهم حقهم من المال. والثانية القيام على رعايتهم وحفظهم من الضياع وواضح أن الثانية عامة تشمل اليتيم الذي ترك له أبوه مالا أو نال مالا من أية ناحية من النواحي، والأولى تكون لذوي المال...
والله سبحانه وتعالى وزع الميراث توزيعا عادلا لم يفرق بين قوي وضعيف بل كانت رعايته للضعيف أشد، ولذلك أعطى الذرية أكثر مما أعطى الأبوين، لأن الذرية الضعاف أحوج إلى المال، وهو لهم ألزم، ولذلك قال تعالى في وصيته: {والمستضعفين من الولدان} أي الذين هم في حال يستضعفهم غيرهم ولا يعطيهم حقوقهم وهم ضعفاء في ذات أنفسهم أي أنه لا بد أن يعطوا ميراثهم كاملا غير منقوص، وعبر عن هؤلاء بقوله سبحانه: {من الولدان} ولم يعبر عنهم بيتامى مع أنهم يتامى، للإشارة إلى ما يربطهم بالمتوفي، وهو كونهم أولاده وهذا قدر يشتركون فيه مع الكبار، فالسبب في الميراث هو الولاء، وهم جميعا يشتركون فيه، وإذا اشتركوا في السبب وجب أن يشتركوا في المسبب وهو الميراث، ولا فرق في ذلك بين كبير وصغير. والوصية الأخرى، وهي القيام على شؤون اليتيم برعايته وكفالته، وإصلاح حاله، وتعهده بالعطف والمحبة والإكرام وقد تكرر في القرآن الكريم الأمر برعاية اليتيم، وتكرر في قول النبي صلى الله عليه وسلم الأمر برعايته والتوصية به، ففي القرآن الكريم نجد كثيرا من ذلك مثل قوله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر (9)} (الضحى). وفي السنة مثل قوله صلى الله عليه وسلم "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا... "وضم أصبعيه الكريمتين عليه الصلاة والسلام وقوله عليه الصلاة والسلام: "خير بيت من بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيت من بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم".
ونجد النص الكريم يقول: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}...
وهذا التعبير فيه ثلاث إشارات بيانية:
أولاها: التعبير بالقيام، فإن مؤداه أن ينهض الولي على القاصر بعناية واهتمام لرعاية حاله، وكون الخطاب للجميع لا لخصوص الأوصياء يدل على الوجوب على الأمة بشأن يتاماها، أو رعايتهم فرض كفاية فهو على الأمة مجتمعة.
ثانيها: التعبير باللام في قوله تعالى "لليتامى" أي أن يكون القيام والنهوض لمصلحة اليتامى الحقيقية، من حيث التربية والتهذيب والمحبة من غير تدليل مضعف لقوة النفس والعزيمة والإرادة القوية.
ثالثها: أن يكون ملاحظا في ذلك القسط والعدل، بألا ينقص من ماله شيء، ولا يترك هملا إذا لم يكن له مال، فإذا كانت العدالة المالية توجب ألا ينقص من ماله، فالعدالة الاجتماعية توجب أن تسد خلته وضعفه. وكانت عناية الإسلام باليتامى لأنهم قوة للأمة إن صلحوا، وقوة مدمرة في الأمة إن لم يصلحوا، إذ أنهم لو قهروا ينشأون وبينهم وبين الناس عداوات مستمرة، ونفور يدفعهم إلى أن يكونوا مدمرين في الجماعة وعنصر تخريب، فإن أكثر الخارجين على الجماعة تبتدئ عقدهم النفسية في طفولتهم بالجفوة معهم، وحرمانهم من المودة والرحمة. {وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما}. أي خير تفعلونه ويكون نافعا لجماعتكم، مصلحا بينكم فإن الله سبحانه وتعالى يكون عليما به علما دقيقا، لا تخفى عنه فيه خافية، وفي ذكر هذا النص الكريم بعد الوصايا السابقة إشارة إلى أن هذه الوصايا تنفيذها خير محض، ونفعها لا شك فيه ولا ريب، نفعه لمن يفعله لأن عاقبته حسنى له، وخير للجماعة لأنه يقدم للمجتمع عناصر قوية بانية وخير للضعفاء في أنفسهم، وهو خير عند الله يحتسب به الجزاء الأوفى عنده. وإن فعل الخير يعلمه من يستطيع الجزاء علما محيطا دقيقا، فإذا علمه جازى به خير الجزاء، وقد أكد سبحانه علمه الذي يرتب عليه خير الجزاء بثلاثة مؤكدات: أولها- التعبير بإن، وثانيها- نسبة العلم إلى الله جل جلاله، فهو علم يليق بذاته، وبقدرته وإرادته، وثالثها- صيغة المبالغة بوصفه ب "عليم" ثم بلفظ الكينونة وهو كان، فإنه يقتضي استمرار العلم ودوامه، فعلى الذين يقومون على شؤون اليتامى أن يعلموا أنهم في رقابة مستمرة من الله تعالى ذي الجلال والإكرام ويعلمون أنه مجاز على مقدار ما يعلم...
مع أن الاستفتاء في أمر النساء جملة: صغيرات وكبيرات يتيمات وغير يتيمات فلماذا جاء الجواب في يتامى النساء؟، لأن النساء الكبيرات لهن القدرة على أن يبحثن أمورهن ولسن ضعيفات أما اليتيمة فهي ضعيفة الضعيفات وعرفنا معنى اليتيم، واليتيم حيث لا يبلغ الإنسان المبلغ الذي يصبح فيه مستقلا، فلا يقال لمن بلغ حد البلوغ سواء أكان رجلا أم امرأة أنه يتيم، لذلك جاء الجواب خاصا بيتامى النساء،... "وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما "ليدلنا على أن أمر الفعل والقيام به ليس مناط الجزاء ولكن أمر النية في الفعل هو مناط الجزاء، فإياك أيها المؤمن أن تقول: فعلت، ولكن قل: فعلت بنية كذا...
ولم يقل الحق: "وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم"، لأنه سبحانه عليم لا بعد أن نصنع العمل بل بكمال قدرته يعلم قبل أن نصنع الخير وكل شيء كان معلوما لله قبل أن يخلق الوجود ولا ينتظر سبحانه إلى أن يقوم الإنسان بالعمل حتى يحصل ويحدث منه العلم بل إنه جل شأنه يعلم كل شيء علما أزليا، لذلك قال:"فإن الله كان به عليما "لأن كل أمر برز في الوجود إنما كان على وفق ما علمه الله أزلا قبل أن يوجد الوجود...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
كانت النساء كمّيةً مهملة في حساب أهل الجاهلية في الميراث وفي غيره، لأنهن لا يشاركن في تنمية المال أو تحصيله، ولا يدافعن عن العشيرة... وجاء الإسلام بقانون الإرث وغيره من القوانين المتعلقة بحقوقهن، مما تعرضت له هذه السورة في أوائلها وغيرها، كما في سورة البقرة وأمثالها؛ وقد تكون هذه الآية سابقةً على تلك الآيات، فتكون بمثابة دعوةٍ واستفتاء لم يبيّنه الله فيها؛ وربما كانت متأخرةً عنها، فتكون سؤالاً عن الموضوع بعد أن ثار الجدل حوله، لاختلافه مع ما اعتادوه من عاداتهم وشرائعهم؛ فجاءت هذه الآية لتؤكد تلك الأحكام، باعتبار أَن الفتيا فيها من الله سبحانه. وكلا الوجهين محتملان، وإن كان الوجه الأول أقرب إلى مضمون كلمة الاستفتاء، التي تعني الفتيا في أمر لم يسبق لهم معرفة حكمه...