قوله تعالى : { وَمَا يُتْلَى } : فيه سبعة أوجه ، وذلك أن موضع " ما " يحتمل أن يكون رفعاً أو نصباً أو جراً . فالرفعُ من ثلاثة أوجه ، أحدها : أن يكون مرفوعاً عطفاً على الضمير المستكنِّ في " يُفتيكم " العائدِ على الله تعالى ، وجاز ذلك للفصل بالمفعول والجار والمجرور مع أن الفصلَ بأحدِهما كافٍ . والثاني : أنه معطوفٌ على لفظ الجلالة فقط ، كذا ذكره أبو البقاء وغيرُه ، وفيه نظر ، لأنه : إمَّا أَنْ يُجعلَ من عطف مفردٍ على مفرد فكان يجب أن يُثَنَّى الخبرُ وإنْ توسط بين المتعاطفين فيقال : " يُفْتِيانكم " ، إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز ، ومَنِ ادَّعى جوازه يَحْتاج إلى سماع من العرب فيقال : " زيد قائمان وعمرو " ومثلُ هذا لا يجوز ، وإمَّا أَنْ يُجْعَلَ من عطف الجمل بمعنى أنَّ خبرَ الثاني محذوفٌ أي : وما يتلى عليكم يُفْتيكم ، فيكون هذا هو الوجهَ الثالث - وقد ذكروه - فيلزم التكرار . والثالث من أوجه الرفع : أنه رفع بالابتداء وفي الخبر احتمالان ، أحدهما : أنه الجار بعده وهو " في الكتاب " والمرادُ بما يتلى القرآنُ ، وبالكتابِ اللوحُ المحفوظ ، وتكون هذه الجملةُ معترضةً بين البدل والمبدل منه على ما سيأتي بيانُه . وفائدةُ الاخبارِ بذلك تعظيمُ المتلوِّ ورفعُ شأنِه ، ونحوه : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الزخرف : 4 ] . والاحتمال الثاني : أن الخبر محذوف : أي : والمتلوُّ عليكم في الكتاب يُفْتيكم أو يبيِّن لكم أحكامَهن ، فهذه أربعة أوجه . وكلام الزمخشري يحتمل جميع الأوجه ، فإنه قال : " ما يُتْلى " في محل الرفع أي : اللّهُ يُفْتيكم والمتلوُّ في الكتاب في معنى اليتامى ، يعني قولَه :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } [ النساء : 3 ] وهو من قولك : " أعجبني زيدٌ وكرمه " انتهى . يعني أنه من بابِ التجريد ، إذ المقصودُ الإِخبارُ بإعجاب كرمِ زيدٍ ، وإنما ذُكِر زيدٌ ليُفيدَ هذا المعنى الخاص لذلك المقصود أنّ الذي يُفْتيهم هو المتلو في الكتاب ، وذُكِرت الجلالةُ للمعنى المشار [ إليه ] ، وقد تقدَّم تحقيق التجريد في أول البقرة عند قوله { يُخَادِعُونَ اللَّهَ } [ الآية : 9 ] .
والجر من وجهين ، أحدهما : أن تكون الواو للقسم ، وأقسمَ اللّهُ بالمتلوِّ في شأن النساء تعظيماً له كأنه قيل : وأُقْسم بما يُتْلى عليكم في الكتاب ، ذكره الزمخشري والثاني : أنه عطفٌ على الضمير المجرور ب " في " أي : يُفْتيكم فيهنَّ وفيما يتلى ، وهذا منقولٌ عن محمد بن أبي موسى قال : " أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يَسْألوا " إلا أنَّ هذا ضعيف من حيث الصناعةُ ، لأنه عطفٌ على الضميرِ المجرورِ من غير إعادة الجار وهو رأي الكوفيين ، وقد قَدَّمْتُ ما في ذلك من مذاهب الناس ودلائلهم مستوفى عند قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ البقرة : 217 ] فعليك بالالتفات إليه . قال الزمخشري : " ليس بسديدٍ أن يُعْطَف على المجرور في " فيهنَّ " لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى " وهذا سبَقَه إليه أبو إسحاق قال : " وهذا بعيدٌ بالنسبةِ إلى اللفظِ وإلى المعنى : أمَّا اللفظُ فإنه يقتضي عطفَ المُظْهَر على المضمرِ ، وأما المعنى فلأنه ليس المرادُ أنَّ اللّهَ يفتيكم في شأنِ ما يُتْلى عليكم في الكتاب ، وذلك غيرُ جائزٍ كما لم يَجُزْ في قوله { تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] يعني من غيرِ إعادةِ الجار . وقد أجاب الشيخ عما ردَّ به الزمخشري والزجاج بأن التقدير : يُفْتيكم في متلوِّهنَّ وفيما يُتْلى عليكم في الكتابِ في يتامى النساء ، وحُذِف لدلالة قوله { وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } وإضافةُ " متلوّ " إلى ضمير " هُنَّ " سائغةٌ ، إذ الإِضافةُ تكون بأدنى ملابسةٍ لمَّا كان متلواً فيهن صَحَّتِ الإِضافةُ إليهن ، كقوله : { مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ سبأ : 33 ] لمَّا كان المكرُ يقع فيهما صَحَّتْ إضافُته إليهما ، ومثله قول الآخر :
إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بِسُحْرَةٍ *** سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في الغرائب
والنصبُ بإضمار فعل أي : ويبيِّن لكم ما يُتْلى ، لأنَّ " يُفْتيكم " بمعنى يبيِّن لكم . واختار الشيخ وجهَ الجرِّ على العطفِ على الضمير ، مختاراً لمذهب الكوفيين وبأنَّ الأوجه كلَّها تؤدي إلى التأكيد ، وأمَّا وجهُ العطف على الضمير فيجعلُه تأسيساً قال : " وإذا دار الأمرُ بينهما فالتأسيسُ أَوْلى " وفي جَعْلِه هذا الوجهَ منفرداً بالتأسيس دونَ بقية الأوجه نظرٌ لا يَخْفى .
قوله : { فِي الْكِتَابِ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنه متعلق ب " يُتْلى " والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في " يتلى " والثالث : أنه خبر " ما يتلى " على الوجه الصائر إلى أنَّ " ما يتلى " مبتدأ ، فيتعلق بمحذوف أيضاً ، إلاَّ أنَّ محلَّه على هذا الوجهِ رفعٌ ، وعلى ما قبله نصبٌ .
قوله : { فِي يَتَامَى } فيه خمسة أوجه ، أحدُها : أنه بدل من " الكتاب " وهو بدلُ اشتمالٍ ، ولا بد مِنْ حذفِ مضافٍ أي في حُكْم يتامى ، ولا شك أن الكتابَ مشتملٌ على ذكرِ أحكامهن . والثاني : أن يتعلق ب " يتلى " فإن قيل : كيف يجوزُ تعلُّقُ حَرْفَيْ جر بلفظ واحد ومعنى واحد ؟ فالجوابُ أنَّ معناهما مختلف ، لأنّ الأولى للظرفيةِ على بابها ، والثانية بمعنى الباء للسببية مجازاً أو حقيقةً عند مَنْ يقولُ بالاشتراك . وقال أبو البقاء : كما تقولُ " جئتُك في يوم الجمعة في أَمْرِ زيد " والثالث : أنه بدل من " فيهن " بإعادة العامل ، ويكون هذا بدل بعض من كل . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : بِمَ تعلَّق قوله " في يتامى النساء ؟ " قلت : في الوجه الأول هو صلةُ " يُتْلى " أي : يُتْلى عليكم في معناهن ، ويجوز أن يكونَ " في يتامى " بدلاً من " فيهنَّ " ، وأمّا في الوجهين الأخيرين فبدلٌ لا غير " انتهى .
يعني بالوجه الأول أن يكونَ " ما يتلى " مرفوعَ المحل . قال الشيخ : " أمَّا ما أجازه في وجَهْ الرفع من كونه صلة " يتلى " فلا يجوزُ إلاَّ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " في الكتاب " أو تكون " في " للسببية ، لئلا يتعلق حرفا جر بلفظ واحد ومعنى واحد بعاملٍ واحد ، وهو ممتنعٌ إلا في البدل والعطف ، وأمَّا تجويزُه أن يكونَ بدلاً من " فيهن " فالظاهرُ أنه لا يجوز للفصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالمعطوفِ ، ويصير هذا نظيرَ قولك : " زيدٌ يقيمُ في الدار وعمروٌ في كِسْرٍ منها " فَفَصَلْتَ بين " في الدار " وبين " في كِسْر " ب " عمرو " والمعهودُ في مثل هذا / التركيب : زيدٌ يقيمُ في الدار في كِسْرٍ منها وعمروٌ " الرابعُ : أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب أي : فيما كَتَب في حكم اليتامى . الخامس : أنه حال فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وصاحبُ الحالِ هو المرفوعُ ب " يُتْلى " أي : كائناً في حكم يتامى النساء ، وإضافةُ " يتامى " إلى النساء من بابِ إضافةِ الخاص إلى العام لأنهن ينقسمن إلى يتامى وغيرهن . وقال الكوفيون : هو من إضافةِ الصفة إلى الموصوف ، إذا الأصلُ : في النساء اليتامى ، وهذا عند البصريين لا يجوز ، ويؤولون ما وَرَدَ من ذلك . وقال الزمخشري : " فإنْ قلت : إضافة اليتامى إلى النساء ما هي ؟ قلت : هي إضافةٌ بمعنى " مِنْ " نحو : سُحْقِ عمامةٍ . قال الشيخ : " والذي ذكره النحويون من ذلك إضافة الشيء إلى جنسه نحو : " خاتمُ حديدٍ " ويجوزُ الفصل إمَّا بإتباع نحو : " خاتمٌ حديدٌ " أو تنصبَه تمييزاً نحو : " خاتمٌ حديداً " أو تجرُّه ب " مِنْ " نحو : خاتم من حديد " قال : " والظاهر أن إضافة " سُحْق عمامةٍ " و " يتامى النساء " بمعنى اللامِ ، ومعنى اللام الاختصاص " وهذا الردُّ ليس بشيء فإنهم ذكروا ضابط الإِضافة التي بمعنى " مِنْ " أن تكونَ إضافةَ جزءٍ إلى كل بشرطِ صدقِ اسمِ الكل على البعض ، ولا شك أن " يتامى " بعض من النساء ، والنساء يَصْدُق عليهنَّ ، وتحرَّزْنا بقولنا " بشرطِ صدقِ الكل على البعض ، من نحو " يد زيد " فإنَّ زيداً لا يَصْدُقُ على اليد وحدَها . وقال أبو البقاء : " في يتامى النساء " أي : في اليتامى منهن " وهذا تفسيرُ معنى لا إعرابٍ .
والجمهور على " يتامى " جمع يتيمة . وقرأ أبو عبد الله المدني : " ييامى " بياءين مِنْ تحتُ ، وخَرَّجه ابن جني على أن الأصل " أَيامى " فأَبْدَل من الهمزة ياءً ، كما قالوا : " فلانٌ ابنُ أعصر ويَعْصر " ، والهمزةُ أصلٌ ، سُمِّي بذلك لقوله :
أبْنَيَّ إنَّ أباكَ غَيَّر لونَه *** كَرُّ الليالي واختلافُ الأعْصُرِ
وهم يُبْدلون الهمزةَ من الياء كقولهم : " قطع الله أَدَاهُ " يريدون : يَده ، فلذلك يُبْدِلون منها الياءَ ، و " أيامى " جمع " أَيِّم " بوزن فَيْعِل ، ثم كُسِّر على أيايم كسيِّد وسيايد ، ثم قُلِبَتِ اللامِ إلى موضعِ العين ، والعين إلى موضع اللام فصار اللفظ " أَيامي " ثم قُلِبت الكسرةُ فتحةً لخفتِها ، فتحركت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فصار : " أيامى " فوزنه فيالع . وقال أبو الفتح أيضاً : " ولو قيل إنه كُسِّر أيِّم على فَعْلى كسَكْرى ثم كُسِّر ثانياً على " أيامى " لكان وجهاً حسناً . وسيأتي تحقيق هذه اللفظة عند قوله : { وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] إنْ شاء الله تعالى . وقرئ : " ما كَتَبَ اللَّهُ لهنَّ بتسمية الفاعل .
قوله : { وَتَرْغَبُونَ } فيه أوجه ، أحدُهما : - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على الصلةِ عطفَ جملةٍ مثبتةٍ على جملةٍ منفية أي : اللاتي لا تؤتونهن واللاتي ترغبون أن تنكوحوهُن ، كقولك : " جاء الذي لا يَبْخَلُ ويكرم الضيفان " والثاني : أنه معطوفٌ على الفعلِ المنفيِّ ب " لا " أي : لا تؤتونهن ولا ترغبون والثالث : أنه حالٌ من فاعل " تؤتونهن " أي : لا تؤتونهن وأنتم راغبون في نكاحهن . ذكر هذين الوجهين أبو البقاء ، وفيهما نظر : أمّا الأولُ فلخلافِ الظاهر ، وأما الثاني فلأنه مضارع مثبت ، فلا تدخل عليه الواو إلا بتأويلٍ لا حاجة لنا به ههنا .
و { أَن تَنكِحُوهُنَّ } على حَذْفِ حرفِ الجر ففيه الخلاف المشهور : أهي في محل نصب أم جر ؟ واختُلِفَ في تقدير حرف الجر فقيل : هو " في " أي : ترغبون في نكاحهن لجمالِهِنَّ ومالِهنَّ ، وقيل : هو " عن " أي : ترغبون عن نكاحهن لقُبْحِهن وفقرهنَّ ، وكان الأولياء كذلك : إن رَأَوها جميلة موسِرَةً تزوجها وليُّها ، وإلاَّ رغبَ عنها . والقول الأول مرويُّ عن عائشة وطائفة كبيرة . وهنا سؤال : وهو أنَّ أهلَ العربية ذكروا أن حرف الجر يجوز حذفُه باطراد مع " أَنْ " و " أنَّ " بشرط أَمْنِ اللبس ، يعني أن يكون الحرفُ متعيناً نحو : " عجبت أن تقوم " أي : من أن تقوم ، بخلاف " مِلْتُ إلى أن تقوم " أو " عن أن تقوم " والآيةُ من هذا القبيل . والجواب : أن المعنيين صالحان يدل عليه ما ذكرت لك من سببِ النزولِ فصار كلُّ من الحرفين مراداً على سبيلِ البدل .
قوله : { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ } فيه ثلاثة أوجه الأول - وهو الظاهر- أنه معطوفٌ على " يتامى النساء " أي : ما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي المستضعفين ، والذي تُلي عليهم فيهم قوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ }
[ النساء : 11 ] ، وذلك أنهم كانوا يقولون : لا نُوَرِّثُ إلا مَنْ يحمي الحَوْزة ويَذُبُّ عن الحرَمِ فيَحرمون المرأة والصغيرَ فنزلت . والثاني : أنَّه في محلِّ جر عطفاً على الضمير في " فيهن " وهذا رأيٌ كوفي . والثالث : أنه منصوب عطفاً على موضع " فيهن " أي : ويبيِّن حالَ المستضعفين . قال أبو البقاء : " وهذا التقديرُ يَدْخُلُ في مذهبِ البصريين مِنْ غيرِ كَلَفَةٍ " يعني أنه خير من مذهب الكوفيين ، حيث يُعْطَفُ على الضمير المجرور مِنْ غير إعادَةِ الجار .
قوله : { وَأَن تَقُومُواْ } فيه خمسةُ أوجه : الثلاثة المذكورة فيما قبله فيكون هو كذلك لعطفِه على ما قبلَه ، والمتلوُّ عليهم في هذا المعنى قولُه :
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ونحوه . والرابع : النصبُ بإضمار فعل . قال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار " يأمركم " بمعنى : ويأمركم أن تقوموا ، وهو خطابٌ للأئمة بأَنْ ينظروا إليهم ويستوفوا لهم حقوقهم ولا يَدَعوا أحداً يهتضم جانبهم " فهذا الوجه من النصبِ غيرُ الوجهِ الذي ذكرته فيما قبلُ والخامس : أنه مبتدأ وخبره محذوفٌ أي : وقيامُكم لليتامى بالقسطِ خيرُ لكم . وأولُ الأوجُهِ أوجَهُ .