إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا} (127)

{ وَيَسْتَفْتُونَكَ في النساء } أي في حقهن على الإطلاق كما ينبئ عنه الأحكامُ الآتية لا في حق ميراثِهن خاصة فإنه صلى الله عليه وسلم قد سُئل عن أحوال كثيرةٍ مما يتعلق بهن ، فما بُيِّن حكمُه فيما سلف أحيل بيانُه على ما ورد في ذلك من الكتاب ، وما لم يُبيَّن حُكمُه بعدُ بُيِّن هاهنا ، وذلك قوله تعالى : { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ في الكتاب } بإسناد الإفتاءِ الذي هو بيانُ المُبهم وتوضيحُ المُشكلِ إليه تعالى وإلى ما تُليَ من الكتاب فيما سبق باعتبارين على طريقة قولِك : أغناني زيدٌ وعطاؤُه بعطف { مَا } على المبتدأ أو ضميرِه في الخبر لمكان الفصلِ بالمفعول والجارِّ والمجرور ، وإيثارُ صيغة المضارعِ للإيذان باستمرار التلاوةِ ودوامِها و { في الكتاب } إما متعلقٌ بيُتلى أو بمحذوف وقع حالاً من المستكنّ فيه أي يتلى كائناً فيه ويجوز أن يكون ما يتلى عليكم مبتدأً وفي الكتاب خبرُه على أن المرادَ به اللوحُ المحفوظُ ، والجملةُ معترضةٌ مسوقةٌ لبيان عِظَمِ شأن المتلوِّ عليهم وأن العدلَ في الحقوق المبنيّة فيه من عظائم الأمورِ التي يجب مراعاتُها والمحافظةُ عليها فيما يتلى حينئذ متناولٌ لما تُليَ وما سيتلى ويجوز أن يكون مجروراً على القسم المُنبئ عن تعظيم المقسَم به وتفخيمِه كأنه قيل : قل الله يُفتيكم فيهن وأُقسِم بما يتلى عليكم في الكتاب ، فالمرادُ بقوله تعالى : { يُفْتِيكُمْ } بيانُه السابقُ واللاحقُ ولا مساغَ لعطفه على المجرور من فيهن لاختلاله لفظاً ومعنى ، وقولُه تعالى : { في يتامى النساء } على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ متعلقٌ بيتلى أي ما يتلى عليكم في شأنهن ، وعلى الأخيرين بدلٌ من فيهن ، وهذه الإضافةُ بمعنى من لأنها إضافةُ الشيءِ إلى جنسه وقرئ ييامى بقلب همزةِ أيامى ياءً . { اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } أي ما فُرض لهن من الميراث وغيره { وَتَرْغَبُونَ } عطفٌ على الصلة عطفَ جملةٍ مُثبتةٍ على جملة منفية ، وقيل : حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون ، ولا ريب في أنه لا يظهر -لتقييدِ عدمِ الإيتاءِ بذلك- فائدةٌ إلا إذا أريد بما كُتب لهن صَداقُهن { أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي في أن تنكِحوهن لا لأجل التمتعِ بهن بل لأكل مالِهن أو في أن تنكوحهن بغير إكمالِ الصَّداقِ وذلك ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها من أنها اليتيمةُ تكون في حِجْر وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويرد أن ينكِحَها بأدنى من سُنة نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ أو عن أن تنكِحوهن ، وذلك ما روي عنها رضي الله عنها أنها يتيمةٌ يرغب وليُّها عن نكاحها ولا يُنكِحُها فيعضُلها طمعاً في ميراثها ، وفي رواية عنها رضي الله عنها هو الرجلُ يكون عنده يتيمةٌ هو وليُّها ووارثُها وشريكُها في المال حتى في العِذْق فيرغب أن ينكِحَها ويكره أن يزوِّجَها رجلاً فيَشرُكَه في ماله بما شرَكَتْه فيعضُلها ، فالمرادُ بما كُتب لهن على الوجه الأولِ والأخير ميراثُهن وبما يتلى في حقهن قولُه تعالى : { وَآتُوا اليتامى أموالهم } [ النساء ، الآية 2 ] وقولُه تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوهَا } [ النساء ، الآية 6 ] ونحوُهما من النصوص الدالةِ على عدم التعرّضِ لأموالهم وعلى الوجه الثاني صَداقُهن وبما يتلى فيهن قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا في اليتامى } [ النساء ، الآية : 3 ] الآية . { والمستضعفين مِنَ الولدان } عطفٌ على يتامى النساءِ وما يتلى في حقهم وقولِه تعالى : { يُوصِيكُمُ الله } [ النساء ، الآية 11 ] الخ ، وقد كانوا في الجاهلية لا يورِّثونهم كما لا يورِّثون النساءَ ، وإنما يورِّثون الرجالَ القوّامين بالأمور . رُوي أن عيينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أُخبرنا بأنك تعطي الابنةَ النصفَ والأختَ النصفَ وإنما كنا نورِّث من يشهدُ القِتالَ ويجوز الغنيمة ، فقال عليه الصلاة والسلام : «كذلك أُمِرْتُ » { وَأَن تَقُومُوا لليتامى بالقسط } بالجر عطفٌ على ما قبله ، وما يتلى في حقهم قولُه تعالى : { وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء ، الآية : 2 ] ونحوُ ذلك مما لا يكاد يحصُر هذا على تقدير كونِ { في يتامى النساء } [ النساء ، الآية : 127 ] متعلقاً بيتلى ، وأما على تقدير كونِه بدلاً من فيهن فالوجهُ نصبُه عطفاً على موضع { فِيهِنَّ } أي يفتيكم أن تقوموا ويجوز نصبُه بإضمار فعلٍ ، أي ويأمركم ، وهو خطابٌ للولاة أو الأولياء والأوصياءِ { وَمَا تَفْعَلُوا } في حقوق المذكورين { منْ خَيْرٍ } حسبما أُمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق ، فيندرجُ فيه ما يتعلق بهم اندراجاً أولياً { فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } فيجازيكم بحسبه .