نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا} (127)

ولما كان سبحانه وتعالى قد رتب هذا الكتاب على أنه يذكر أحكاماً من الأصول والفروع ، ثم يفصلها بوعد ووعيد وترغيب وترهيب ، وينظمها{[22835]} بدلائل كبريائه وجلاله وعظيم بره وكماله ، ثم يعود إلى بيان الأحكام على أبدع نظام{[22836]} لأن إلقاء المراد في ذلك القالب أقرب إلى القبول ، والنظم كذلك أجدر{[22837]} بالتأثير{[22838]} في القلوب ، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا تنقاد له النفوس إلا إذا كان مقروناً ببشارة ونذارة ، وذلك لا يؤثر إلا عند القطع بغاية الكمال لمن صدر عنه ذلك المقال ، ولا ينتقل مع ذلك من أسلوب إلى آخر إلا على غاية ما يكون من المناسبة بين آخر كل نوع وأول ما بعده بكمال التعلق لفظاً ومعنى ، وفعل سبحانه وتعالى في هذه السورة في أحكام العدل الذي بدأ السورة به في المواصلة التي مبناها النكاح والإرث وغير ذلك مما اتصل به - كما بين - إلى أن ختم هنا بالإسلام المثمر لقبول ذلك كله وعظمة الملك الموجبة لتمام الإسلام ، وقامت {[22839]}البراهين وسطعت الحجج ، وكان من أعظم مقاصد السورة العدل في الضعفاء من الأيتام وغيرهم في{[22840]} الميراث {[22841]}وغيره{[22842]} ، وكان توريث النساء والأطفال - ذكوراً كانوا أو إناثاً - مما أبته نفوسهم ، وأشربت بغضه قلوبهم ، وكان التفريق في إثبات ما هذا سبيله أنجع ، وإلقاؤه شيئاً فشيئاً في قوالب البلاغة أنفع ؛ وصل بذلك قوله تعالى : { ويستفتونك } في {[22843]}جملة حالية{[22844]} من اسم الجلالة{[22845]} التي قبلها ، أي له ما ذكر فلا مساغ{[22846]} للاعتراض عليه والحال أنهم يسألونك طلباً لأن تتفتى عليهم بالجواب في بعض ما أعطى من ملكه لبعض{[22847]} مخلوقاته { في النساء } طمعاً في الاستئثار{[22848]} عليهم بالمال وغيره محتجين بأنه لا ينبغي أن يكون المال إلا لمن يحمي الذمار والحال أنهم قد عبدوا من دونه إناثاً ، وجعلوا لهم مما خولهم فيه من الرزق الذي ملكهم له بضعف{[22849]} من الحرث والأنعام نصيباً ، فلا تعجب من حال من كرر الاستفتاء - الذي لا يكون في العرف غالباً إلا فيما فيه اعتراض - في إناث أحياء وأطفال ذكور وأعطاهم المِلك التام المُلك العظيم المِلك بعض{[22850]} ما يريد ، ولم يعترض على نفسه حيث أعطى إناثاً{[22851]} لا حياة لها ولا منفعة مما في يده ، وملكه في الحقيقة لغيره ، ولم يأذن فيه المالك ما لا ينتفع به المعطي .

ولما كان المقام بكثرة الاستفتاء محتاجاً إلى زيادة الاعتناء قال : { قل الله } آمراً معبراً بالاسم الأعظم منبهاً على استحضار ما ذكر أول السورة { يفتيكم } أي يبين لكم حكمه { فيهن } أي الآن لأن تقوموا لهن{[22852]} بالقسط { وما } أي مع ما { يتلى عليكم } أي تجدد فيكم تلاوته{[22853]} إلى آخر الدهر سيفاً قاطعاً وحكماً ماضياً جامعاً { في الكتاب } أي فيما سبق أول السورة في قوله : { وإن خفتم ألا تقسطوا في{[22854]} اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } ، وغير ذلك{[22855]} { في يتامى النساء } أي في شأن التيامى من هذا الصنف { اللاّتي لا تؤتونهن } أي بسبب التوقف في ذلك و{[22856]}تكرير الاستفتاء{[22857]} عنه { ما كتب لهن } أي ما فرض من الميراث وسائر الحقوق فرضاً وهو في غاية اللزوم { وترغبون أن } أي في أن أو عن أن { تنكحوهن } لجمالهن أو لدمامتهن{[22858]} { و } يفتيكم في{[22859]} { المستضعفين } أي الموجود ضعفهم والمطلوب إضعافهم ، يمنعهم حقوقهم { من الولدان } .

ولما كان التقدير ؛ في أن تقوموا لهم بالقسط ، {[22860]}أي في{[22861]} ميراثهم وسائر حقوقهم ولا تحقروهم لصغرهم{[22862]} ؛ عطف عليه قوله : { وأن تقوموا } أي تفعلوا فيه من القوة والمبادرة فعل القائم المنشط { لليتامى } من الذكور والإناث { بالقسط } أي{[22863]} بالعدل من الميراث وغيره .

ولما كان التقدير : فما تفعلوا في ذلك من شر فإن الله كان به عليماً وعليكم قديراً ؛ عطف عليه قوله ترغيباً : { وما تفعلوا من خير } أي في ذلك أو{[22864]} في غيره { فإن الله } أي الذي له الكمال كله { كان به عليماً * } أي فهو جدير - وهو أكرم الأكرمين وأحكم الحاكمين - بأن يعطي فاعله على حسب كرمه وعلو قدره ، فطيبوا نفساً وتقروا عيناً ؛ روى البخاري في الشركة والنكاح ومسلم في آخر الكتاب وأبو داود والنسائي في النكاح " عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن قول الله عز وجل : { فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } إلى { رباع } قالت : يا ابن أختي{[22865]} ! هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه{[22866]} في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط{[22867]} في{[22868]} صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن{[22869]} إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا{[22870]} بهن أعلى سنتهن{[22871]} من الصداق وأمروا{[22872]} أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن ؛ قال عروة{[22873]} : قالت عائشة رضي الله عنها : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن{[22874]} فأنزل الله عز وجل{[22875]} ( {[22876]}ويستفتونك - إلى - وترغبون أن تنكحوهن ) "

والذي ذكر الله{[22877]} أنه يتلى {[22878]}عليكم في الكتاب{[22879]} : الآية الأولى{[22880]} التي قال{[22881]} فيها : { {[22882]}وإن{[22883]} خفتم ألا تقسطوا في اليتامى {[22884]}فانكحوا ما طاب لكم من النساء{[22885]} } قالت عائشة رضي الله عنها : وقول الله تعالى في الآية الأخرى : { وترغبون أن تنكحوهن } هي{[22886]} رغبة أحدكم{[22887]} يتيمته - وقال مسلم{[22888]} : عن يتيمته - التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ، زاد مسلم : إذا كن قليلات المال والجمال ، وقال البخاري في النكاح : فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها{[22889]} حقها الأوفى في الصداق ؛ وفي البخاري ومسلم في التفسير عن عروة أيضاً { يستفتونك في النساء } الآية قالت{[22890]} : " هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته - وقال مسلم : لعلها أن تكون قد شركته ، في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها{[22891]} فنزلت هذه الآية ؛ وفي رواية مسلم{[22892]} : نزلت{[22893]} في الرجل تكون{[22894]} له اليتيمة و{[22895]}هو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينكحها{[22896]} لمالها فيضر بها ويسيء صحبتها فقال : { و{[22897]}إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء{[22898]} } يقول : ما حللت{[22899]} لكم ، ودع هذه التي تضر{[22900]} بها " وفي رواية له وللبخاري في النكاح " فيرغب عنها أن يتزوجها{[22901]} ويكره أن يزوجها{[22902]} غيره فيشركه في ماله - وقال البخاري : فيدخل عليه في ماله - فيعضلها ولا يتزوجها ولا يزوجها{[22903]} ، زاد البخاري : فنهاهم الله سبحانه وتعالى " عن ذلك ، وحاصل ذلك ما{[22904]} نقلها الأصبهاني أنه كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد{[22905]} أن يتزوجها أبداً ، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها{[22906]} وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها .

وما أنسب ذكر هذا الحكم الذي كثرت فيه المراجع على وجه يؤذن بعدم إذعان بعض النفوس له عقب آية الإسلام الذي معناه الانقياد والخضوع والإحسان الذي صار في العرف أكثر استعماله للاعطاء والتألف{[22907]} والعطف{[22908]} لا سيما للضعيف{[22909]} ، وذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم أنه أتم ما ابتلاه الله تعالى به من الكلمات ووفي بها من غير مراجعة ولا تلعثم ، وأنه كان حنيفاً ميالاً مع الدليل ، تعنيفاً لمن قام عليه دليل العقل وأتاه{[22910]} صريح النقل وهو يراجع ! وإذا تأملت قوله تعالى :{ من يعمل سوءاً يجز به }[ النساء : 123 ] مع قوله فيما قبل{ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم }[ النساء : 9 ] لاحت{[22911]} لك أيضاً مناسبة بديعة .


[22835]:من مد، وفي الأصل: ينظها، وفي ظ: نطها ـ كذا.
[22836]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[22837]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[22838]:من ظ ومد، وفي الأصل: لتأثير.
[22839]:في ظ: إقامة.
[22840]:في ظ: من.
[22841]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[22842]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[22843]:في ظ: حمله خالية.
[22844]:في ظ: حمله خالية.
[22845]:في ظ: الحالة ـ كذا.
[22846]:من ظ ومد، وفي الأصل: امتناع ـ كذا.
[22847]:من ظ ومد، وفي الأصل: بعض.
[22848]:من ظ ومد، وفي الأصل: الاستثنا.
[22849]:من مد، وفي ظ: ضعيف ـ كذا.
[22850]:من مد، وفي ظ: ببعض.
[22851]:زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد.
[22852]:في ظ: بأن لا يقوموا لهم ـ كذا.
[22853]:في ظ: بـأن لا يقوموا لهم ـ كذا.
[22854]:من ظ ومد، وفي الأصل: تلاوة.
[22855]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[22856]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[22857]:من ظ ومد، وفي الأصل: تكرار استفتا.
[22858]:من ظ ومد، وفي الأصل: تكرار استفتا.
[22859]:في ظ: لزمامتهن.
[22860]:في ظ "و".
[22861]:في ظ: من، وفي مد: أي من.
[22862]:من ظ ومد، وفي الأصل: لضعفهم.
[22863]:سقط من ظ.
[22864]:في ظ: في .
[22865]:من صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي، وفي الأصول: أخي.
[22866]:في سنن أبي داود والنسائي: فتشاركه.
[22867]:في ظ: يقصد ـ كذا.
[22868]:من ظ والمراجع الأربعة، وفي الأصل ومد: من.
[22869]:في ظ: تنكحوهن.
[22870]:في ظ: تبالغوا.
[22871]:من المراجع الأربعة، وفي الأصل: سنيهم، وفي ظ ومد: سنتهم.
[22872]:من ظ والمراجع الأربعة، وفي الأصل ومد: أمر.
[22873]:زيد من المراجع الأربعة.
[22874]:زيد من المراجع الأربعة، إلا أن لفظة "فيهن" ليست في البخاري، و"هذه الآية" ليست في النسائي.
[22875]:زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد والمراجع الأربعة.
[22876]:زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد والمراجع الأربعة.
[22877]:من المراجع الأربعة، وليس في ظ ومد.
[22878]:من الصحيحين، وفي سنن أبي داود: عليهم في الكتاب، وفي سنن النسائي: في الكتاب، وليس في ظ ومد.
[22879]:من الصحيحين، وفي سنن أبي داود: عليهم في الكتاب، وفي سنن النسائي: في الكتاب، وليس في ظ ومد.
[22880]:من مد والمراجع الأربعة، وظ: الأوالي.
[22881]:ليس في النسائي، وزيد بعده في الصحيحين وأبي داود: الله.
[22882]:من المراجع الأربعة والقرآن الكريم، وفي ظ ومد: فإن.
[22883]:من المراجع الأربعة والقرآن الكريم، وفي ظ ومد: فإن.
[22884]:من المراجع الأربعة، وليس في ظ ومد.
[22885]:من المراجع الأربعة، وليس في ظ ومد.
[22886]:من البخاري وأبي داود، وفي الأصل وظ ومد: ومن، وليس في مسلم والنسائي.
[22887]:من المراجع الأربعة، وفي الأصل وظ ومد: أحدهم.
[22888]:وأيضا أبو داود والنسائي.
[22889]:من ظ ومد والبخاري، وفي الأصل: يعطونها.
[22890]:في الأصل وظ: قال، والتصحيح من مد والبخاري ومسلم، وزيد بعده فيهما: عائشة.
[22891]:في ظ: فعضلها.
[22892]:في ظ: لمسلم.
[22893]:في مسلم: أنزلت.
[22894]:من مسلم، وفي الأصل وظ: يكون، وفي مد بلا نقط.
[22895]:سقطت الواو من مسلم.
[22896]:زيد بعده في الأصل: إلا، ولم تكن الزيادة في ظ ومد ومسلم فحذفناها.
[22897]:زيدت الواو من القرآن الكريم ومد ومسلم.
[22898]:زيد من مسلم.
[22899]:في ظ: حلت، وفي مسلم: أحللت.
[22900]:في ظ: يضر.
[22901]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[22902]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[22903]:زيد من مد ومسلم، وموضعه في ظ: يتزوجها، وزيد بعده في مسلم: غيره.
[22904]:في ظ: مما.
[22905]:في ظ: أحدا.
[22906]:في ظ: يتزوجها.
[22907]:في ظ: التاليف.
[22908]:من ظ ومد، وفي الأصل: الاعطا ـ كذا، وزيدت الواو بعده في ظ.
[22909]:من ظ، وفي الأصل ومد: للضيف.
[22910]:في ظ: إياه.
[22911]:في ظ: لا أخت ـ كذا.