معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (31)

قوله تعالى : { وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير* ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله } إن ذلك من نعمة الله عليكم ، { ليريكم من آياته } عجائبه ، { إن في ذلك لآيات لكل صبار } على أمر الله { شكور } لنعمه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (31)

يخبر تعالى أنه هو الذي سَخَّر البحر لتجري فيه الفلك بأمره ، أي : بلطفه وتسخيره ؛ فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت ؛ ولهذا قال : { لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ } أي : من قدرته ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : صبار في الضراء ، شكور في الرخاء .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (31)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ آيَاتِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد أن السفن تجري في البحر نعمة من الله على خلقه لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ يقول : ليريكم من عبره وحججه عليكم إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ يقول : إن في جري الفلك في البحر دلالة على أن الله الذي أجراها هو الحقّ ، وأنّ ما يدعون من دونه الباطللكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ يقول : لكلّ من صبر نفسه عن محارم الله ، وشكره على نعمه فلم يكفره .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : كان مطرف يقول : إنّ من أحبّ عباد الله إليه : الصبّار الشّكور .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصف الإيمان ، واليقين : الإيمان كله ، ألم تر إلى قوله : إنّ فِي ذلك لاَياتٍ لكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ ، إنّ في ذلكَ لاَياتٍ للْمُوقِنينَ إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ للْمُؤْمِنينَ .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لكُلّ صَبّارٍ شَكُور قال : الصبر : نصف الإيمان ، واليقين : الإيمان كله .

إن قال قائل : وكيف خصّ هذه الدلالة بأنها دلالة للصبّار الشّكور دون سائر الخلق ؟ قيل : لأنّ الصبر والشكر من أفعال ذوي الحجى والعقول ، فأخبر أن في ذلك لاَيات لكلّ ذي عقل ، لأن الاَيات جعلها الله عبرا لذوي العقول والتمييز .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (31)

استئناف جاء على سنن الاستئنافين اللذين قبله في قوله { ألم تروا أن الله سخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض } [ لقمان : 20 ] وقوله : { ألم تر أن الله يُولج الليل في النهار } [ لقمان : 29 ] ، وجيء بها غير متعاطفة لئلا يتوهم السامع أن العطف على ما تخلل بينها ، وجاء هذا الاستئناف الثالث دليلاً ثالثاً على عظيم حكمة الله في نظام هذا العالم وتوفيق البشر للانتفاع بما هيّأه الله لانتفاعهم به . فلما أتى الاستئنافان الأولان على دلائل صنع الله في السماوات والأرض جاء في هذا الثالث دليل على بديع صنع الله بخلق البحر وتيسير الانتفاع به في إقامة نظام المجتمع البشري . وتخلص منه إلى اتخاذ فريق من الناس موجبات الشكر دواعي كفر .

فكان خلق البحر على هذه الصفة العظيمة ميسراً للانتفاع بالأسفار فيه حين لا تغني طرق البر في التنقل غناء فجعله قابلاً لحمل المراكب العظيمة ، وألْهَم الإنسان لصنع تلك المراكب على كيفية تحفظها من الغرق في عباب البحر ، وعصمهم من توالي الرياح والموج في أسفارهم ، وهداهم إلى الحيلة في مصانعتها إذا طرأت حتى تنجلي ، ولذلك وصف هذا الجري بملابسة نعمة الله فإن الناس كلما مَخرت بهم الفلك في البحر كانوا ملابسين لنعمة الله عليهم بالسلامة إلا في أحوال نادرة ، وقد سميت هذه النعمة أمراً في قوله { والفلك تجري في البحر بأمره } في سورة الحج ( 65 ) ، أي : بتقديره ونظام خلقه .

وتقدم تفصيله في قوله { فإذا ركبوا في الفلك } في سورة العنكبوت ( 65 ) ، وفي قوله : { هو الذي يُسيّركم في البرّ والبحر } الآيات من سورة يونس ( 22 ) وقوله : { ألم تر أن الله سخّر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره } في سورة الحج ( 65 ) .

ويتعلق { ليريكم } ب { تجري } أي : تجري في البحر جرياً ، علةُ خَلْقه أن يريكم الله بعض آياته ، أي : آياته لكم فلم يذكر متعلق الآيات لظهوره من قوله { ليريكم } وجريُ الفلك في البحر آية من آيات القدرة في بديع الصنع أن خلق ماء البحر بنظام ، وخلق الخشب بنظام ، وجعل لعقول الناس نظاماً فحصل من ذلك كله إمكان سير الفلك فوق عباب البحر . والمعنى : أن جري السفن فيه حِكم كثيرة مقصودة من تسخيره ، منها أن يكون آية للناس على وجود الصانع ووحدانيته وعلمه وقدرته . وليس يلزم من لام التعليل انحصار الغرض من المعلَّل في مدخولها لأن العلل جزئيةٌ لا كلية .

وجملة { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } لها موقع التعليل لجملة { ليريكم من ءاياته } . ولها موقع الاستئناف البياني إذ يخطر ببال السامع أن يسأل : كيف لم يهتد المشركون بهذه الآيات ؟ فأفيد أن الذي ينتفع بدلالتها على مدلولها هو { كل صبّار شكور } ، ثناء على هذا الفريق صريحاً ، وتعريضاً بالذين لم ينتفعوا بدلالتها .

واقتران الجملة بحرف { إنَّ } لأنه يفيد في مثل هذا المقام معنى التعليل والتسبب . وجعل ذلك عدة آيات لأن في ذلك دلائل كثيرة ، أي : الذين لا يفارقهم الوصفان .

والصبَّار : مبالغة في الموصوف بالصبر ، والشَّكور كذلك ، أي : الذين لا يفارقهم الوصفان . وهذان وصفان للمؤمنين الموحِّدين في الصبر للضراء والشكر للسراء إذ يرجون بهما رضى الله تعالى الذي لا يتوكلون إلا عليه في كشف الضر والزيادة من الخير . وقد تخلقوا بذلك بما سمعوا من الترغيب في الوصفين والتحذير من ضديهما قال : { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } [ البقرة : 177 ] ، وقال : { لئن شكرتم لأزِيدَنَّكم } [ إبراهيم : 7 ] فهم بين رجاء الثواب وخوف العقاب لأنهم آمنوا بالحياة الخالدة ذات الجزاء وعلموا أن مَصِيرهم إلى الله الذي أمَر ونهى ، فصارا لهم خلقاً تطبعوا عليه فلم يفارقاهم البتة أو إلا نادراً ؛ فأما المشركون فنظرهم قاصر على الحياة الحاضرة فهم أُسَراء العالم الحِسيّ فإذا أصابهم ضر ضجروا وإذا أصابهم نفع بَطَروا ، فهم أخلياء من الصبر والشكر ، فلذلك كان قوله { لكل صبّار شكور } كنايةً رمزية عن المؤمنين وتعريضاً رمزياً بالمشركين . ووجه إيثار خلقي الصبر والشكر هنا للكناية بهما ، من بين شعب الإيمان ، أنهما أنسب بمقام السير في البحر إذ راكب البحر بين خطر وسلامة وهما مظهر الصبر والشكر ، كما تقدم في قوله تعالى : { هو الذي يسيركم في البرّ والبحر حتى إذا كنتم في الفلك } الآية في سورة يونس ( 22 ) .

وفي قوله { لكل صبّار شكور } حسن التخلص إلى التفصيل الذي عقبه في قوله { وإذا غشيهم موج كالظُّلَل } الآية ، فعطف على آيات سير الفلك إشارة إلى أن الناس يذكرون الله عند تلك الآيات عند الاضطرار ، وغفلتهم عنها في حال السلامة ، وهو ما تقدم مثله في قوله في سورة العنكبوت ( 65 ) : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } وقوله في سورة يونس ( 22 ) : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرَيْنَ بهم بريح طيبة } الآيات .