قوله تعالى :{ وترى الجبال تحسبها جامدة } قائمة واقفة ، { وهي تمر مر السحاب } أي : تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض . فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وبعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو سائر ، كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمتها ، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر ، { صنع الله } نصب على المصدر ، { الذي أتقن كل شيء } يعني : أحكم ، { إنه خبير بما تفعلون } قرأ ابن كثير ، وأهل البصرة : بالياء ، والباقون بالتاء .
وقوله : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أي : تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه ، وهي تمر مر السحاب ، أي : تزول عن أماكنها ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } [ الطور : 9 ، 10 ] ، وقال { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [ طه : 105 ، 107 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] .
وقوله : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : يفعل ذلك بقدرته العظيمة الذي قد أتقن كل ما خلق ، وأودع فيه{[22206]} من الحكمة ما أودع ، { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } أي : هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر فيجازيهم عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الّذِيَ أَتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَتَرى الجِبَالَ يا محمد تَحْسَبُها قائمة وَهِيَ تَمُرُ .
كالذي حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَرَى الجبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً يقول : قائمة ، وإنما قيل : وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحابِ لأنها تجمع ثم تسير ، فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة ، وهي تسير سيرا حثيثا ، كما قال الجعدي :
بأرْعَنَ مِثْلِ الطّوْدِ تَحْسِبُ أنّهُمْ *** وُقُوفٌ لِحاجٍ والرّكابُ تُهَمْلجُ
قوله : صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ وأوثق خلقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ يقول : أحكم كلّ شيء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : صُنعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ يقول : أحسن كلّ شيء خلقه وأوثقه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الّذِين أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ قال : أوثق كلّ شيء وسوّى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد أتْقَنَ أوثق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة إنّهُ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلونَ يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشرّ وطاعة له ومعصية ، وهو مجازي جميعهم على جميع ذلك على الخير الخيرَ ، وعلى الشرّ الشرّ نظيره .
{ وترى الجبال تحسبها جامدة } ثابتة في مكانها . { وهي تمر مر السحاب } في السرعة ، وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تبين حركتها . { صنع الله } مصدر مؤكد لنفسه وهو لمضمون الجملة المتقدمة كقوله { وعد الله } . { الذي اتقن كل شيء } أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي . { إنه خبير بما تفعلون } عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم عليها كما قال : { من جاء بالحسنة فله خير منها }
هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور ، و «الرؤية » هي بالعين{[9091]} وهذه الحال ل { الجبال } هي في أول الأمر تسير وتموج وأمر الله تعالى ينسفها ويفتها خلال ذلك فتصير كالعهن ، ثم تصير في آخر الأمد هباء منبثاً ، و «الجمود » : التصاُّم في الجوهر ، قال ابن عباس { جامدة } قائمة ، ونظيره قول الشاعر [ النابغة ] : [ الطويل ]
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم . . . وقوف لحاج والركاب تهملج{[9092]}
و { صنع الله } مصدر معرف والعامل فيه فعل مضمر من لفظه ، وقيل هو نصب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله{[9093]} ، و «الإتقان » الإحسان في المعمولات وأن تكون حساناً وثيقة القوة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يفعلون » بالياء وقرأ الباقون «تفعلون » بالتاء على الخطاب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.