محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ} (88)

{ وَتَرَى الْجِبَالَ } عطف على { ينفخ } داخل في حكم التذكير { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي ثابتة في أماكنها { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أي في تخلل أجزائها وانتفاشها . كما في قوله تعالى {[5980]} : { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } أي فيجازيهم عليه .

تنبيه :

ما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو ما ذهب إليه كثير . قالوا : المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة . حينما يبيد الله تعالى العوالم ، كما قال {[5981]} : { وسيرت الجبال فكانت سرابا } وكما قال {[5982]} : { وإذا الجبال نسفت وقال {[5983]} : { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } .

وقال بعض علماء الفلك : لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قالوه ، لعدة وجوه :

الأول – أن قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } لا يناسب مقام التهويل والتخويف إذا أريد بها ما يحصل يوم القيامة . وكذلك قوله {[5984]} : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة ، على أن محل هذه الآية على المستقبل ، مع أنها صريحة في إرادة الحال ، شيء لا موجب له . وهو خلاف الظاهر منها .

الثاني – أن سير الجبال للفناء يوم القيامة ، يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال {[5985]} : { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } أي من الملائكة . فما معنى قوله {[5986]} : { وترى الجبال تحسبها جامدة } ؟

الثالث – أن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة ، إذا رآه أحد شعر به . لأنه ما دام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان ، فيحس بحركتها . وهذا ينافي قوله تعالى : { تحسبها جامدة } أي ثابتة . أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها ، لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها . وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة . فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفا . وهذا شيء يراه كل واقف عندها .

الرابع – ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة ، لورود آية { أو لم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا } المذكورة قبلها في نفس هذا السياق ، المراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى ، المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار ، ليكون ذلك دليلا على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة ، لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان ، وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه . ولذلك ختم هذه الآية بقوله : { إنه خبير بما تفعلون } فذكر هذه الأشياء في هذا السياق ، هو كذكر الدليل مع المدلول ، أو الحجة مع الدعوى . وهي سنة القرآن الكريم . فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائما ، حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارجه عنها . وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره . اه .

وقال العلامة المرجاني في مقدمة كتابه ( وفية الأسلاف ، وتحية الأخلاف ) في بحث علم الهيئة ، ما مثاله :

ويدل على حركة الأرض قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } الآية .

فإنه خطاب لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في هذه الرؤية . وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها ، مع كونها متحركة في الواقع بحركة الأرض ، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة . قال : وقوله : { صُنْعَ اللَّهِ } من المصادر المؤكدة لنفسها . وهو مضمون الجملة السابقة . يعني أن هذا المرور هو صنع الله . كقوله تعالى {[5987]} : { وعد الله } {[5988]} : { صيغة الله } ثم ( الصنع ) هو عمل الإنسان ، بعد تدرب فيه وترو وتحري إجادة . ولا يسمى كل عمل صناعة ، ولا كل عامل صانعا ، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه . وقوله { الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } كالبرهان على إتقانه . ودليل على إحكام خلقته وتسوية مروره على ما ينبغي لأن إتقان كل شيء يتناول إتقانه . فهو تثنية للمراد وتكرير له ، كقوله تعالى {[5989]} : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } قال : وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد ، وأنحاء من المبالغة . فمن ذلك تعبيره ( بالصنع ) الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل على الحكمة ، وإضافته إليه تعالى ، تعظيما له وتحقيقا لإتقانه وحسن أعماله . ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء ، ومن جملته هذا المرور . ثم إيراده بالجملة الاسمية الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور . ثم التقييد بالحال ، لتدل على أنها لا تنفك عنها دائما . فإن قوله تعالى : { وهي تمر مر السحاب } حال من المفعول به ، وهو الجبال . ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال .

فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها في هذه النشأة . وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة ، أو عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام ، وأن حسبانها جامدة لعدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد ، فإن ذلك لا يلائم المقصود من التهويل على ذلك التقدير . على أن ذلك نقض وإهدام ، وليس من صنع وإحكام . قال : والعجب من حذاق العلماء المفسرين ، عدم تعرضهم لهذا المعنى ، مع ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء . مع أنه أولى وأحق من تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية ، على ما شحنوا بها كتبهم . وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ، ولا بعيد عن حكمته ، ولا القول به بمصادم للشريعة والعقيدة الحقة ، بعد أن تعتقد أن كل شيء حادث بقدرة الله تعالى وإرادته وخلقه بالاختيار ، كائنا ما كان ، وهو العلي الكبير ، وعلى ما يشاء قدير .

واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى : { ألم يروا أنا جعلنا الليل } ، الآية ، اعتراض في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة ، كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان . ومثل ذلك ليس بعزيز في القرآن .

وفائدته هنا ، التنبيه على سرعة تقضي الآجال ومضي الآماد . والتهويل من هجوم ساعة الموت وقرب ورود وقت المعاد . فإن انقضاء الأزمان ، وتقضي الأوان ، إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان . وهذا المرور . وإن لم يكن مبصرا محسوسا ، لكن ما ينبعث منه تبدل الأحوال ، بما يطرأ من تعاقب الليل والنهار وغيره ، بمنزلة المحسوس المبصر {[5990]} : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } فيكون هذا معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ، مخصوصة به ، إذ لم يخبر به غيره من الأنبياء .

فليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع عند قيام الساعة ووفاء النشأة الآخرة . وإذ ليس هو من ( الصنع ) في شيء . بل هو إفساد أحوال الكائنات ، وإخلال نظام العالم وإهلاك بني آدم . 1ه . كلام المرجاني .


[5980]:(10 القارعة 5).
[5981]:(78 النبأ 20).
[5982]:(77 المرسلات 10).
[5983]:(101 القارعة 5).
[5984]:(27 النمل 88).
[5985]:(39 الزمر 68).
[5986]:(27 النمل 88).
[5987]:(4 النساء 122).
[5988]:(2 البقرة 138).
[5989]:((3 آل عمران 97).
[5990]:(59 الحشر 2).