اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ} (88)

قوله{[39567]} : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جامدة } هذه العلامة الثالثة لقيام القيامة ، وهي قوله تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال } [ الكهف : 47 ] «جَامِدَةً » قائمة واقعة ، و «تَحْسَبُهَا جَامِدَةً » هذه الجملة حالية من فاعل «تَرَى » أو من مفعوله{[39568]} ، لأن الرؤية بصرية .

قوله : «وَهِيَ تَمُرُّ » الجملة حالية{[39569]} أيضاً ، وهكذا الأجرام العظيمة تراها واقفة وهي مارة{[39570]} قال النابغة الجعدي{[39571]} يصف جيشاً كثيفاً :

3973 - بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسِبُ أَنَّهُمْ *** وُقُوفٌ لِحَاجٍ وَالرِّكَابُ تُهَمْلِجُ{[39572]}

و «مَرَّ السَّحَابِ » : مصدر تشبيهي{[39573]} ، قوله : «صُنْعَ اللَّهِ » مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة عامله مضمر ، أي : صنع الله ذلك صنعاً ، ثم أضيف بعد حذف عامله{[39574]} ، وجعله الزمخشري مؤكداً للعامل في { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } وقدره : ويوم ينفخ وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المسيئين في كلام طويل جرياً على مذهبه{[39575]} ، وقيل منصوب على الإغراء ، أي : انظروا صنع الله وعليكم به{[39576]} . والإتقان : الإتيان بالشيء على أكمل حالاته ، وهو من قولهم : تقن أرضه إذا ساق إليها الماء الخاثر بالطين{[39577]} لتصلح للزراعة ، وأرض تقنة ، والتقن فعل ذلك بها ، والتقن أيضاً : ما رمي به في الغدير من ذلك أو الأرض{[39578]} ، ومعنى { أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي : أحكمه . { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالغيبة جرياً على قوله «وَكُلٌّ أَتَوْهُ » ، والباقون بالخطاب جرياً على قوله «وتَرَى » ، لأن المراد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته{[39579]} .


[39567]:في ب: قوله تعالى.
[39568]:انظر التبيان 2/1014.
[39569]:قال أبو البقاء: ("وهي تمر" حال من الضمير المنصوب في "تحسبها"، ولا يكون حالاً من الضمير في "جامدة" إذ لا يستقيم أن تكون جامدة مارة مرّ السحاب والتقدير: مرّاً مثل مر السحاب) التبيان 2/1015.
[39570]:انظر الكشاف 3/154.
[39571]:هو قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة الجعدي العامري، أبو ليلى، شاعر من المعمرين، اشتهر في الجاهلية، وسمي النابغة، لأنه أقام ثلاثين سنة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله، وكان ممن هجر الأوثان، ونهى عن الخمر قبل ظهور الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم. الخزانة 3/167-173.
[39572]:البيت من بحر الطويل، قاله النابغة الجعدي، وهو في الكشاف 3/154، والسبع الطوال لابن الأنباري (461)، تفسير ابن عطية 11/242، القرطبي 13/242، البحر المحيط 7/100، شرح شواهد الكشاف (21). الأرعن: الجبل العالي. الطود: الجبل العظيم، فاستعار الأرعن للجيش ثم شبهه بالطود ليفيد المبالغة في الكثرة. "لحاج" اسم جمع واحدته حاجة، والرّكاب: المطي لا واحد له من لفظه. والهملجة: السير الرهو السهل، والهملاج السريع. يقول: حاربنا العدو بجيش عظيم تظنهم واقفين لحاجة لكثرتهم، والحال أن ركابهم تسرع السير. وهو موطن الشاهد.
[39573]:يعني أن المعنى: تمر مراً كمر السحاب. فحذف المشبه به وأداة التشبيه، وهذا معنى كلام الزمخشري. انظر الكشاف 3/154.
[39574]:انظر التبيان 2/1015، البحر المحيط 7/100.
[39575]:قال الزمخشري: ("صنع الله" من المصادر المؤكدة كقوله "وعد الله" و"صبغة الله" إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب لـ "يوم ينفخ في الصور"، وكان كيت وكيت، أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين، ثم قال: صنع الله يريد به الإثابة والمعاقبة) الكشاف 3/154.
[39576]:انظر تفسير ابن عطية 11/252.
[39577]:المقصود: بالطمي.
[39578]:انظر اللسان (تقن).
[39579]:السبعة (487)، الكشف 2/339-340، الإتحاف (340).