البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ} (88)

الإتقان : الإتيان بالشيء على أحسن حالاته من الكمال والإحكام في الخلق ، وهو مشتق من قول العرب : تقنوا أرضهم إذا أرسلوا فيها الماء الخاثر بالتراب فتجود ، والتقن : ما رمي به الماء في الغدير ، وهو الذي يجيء به الماء من الخثورة .

الجمود : سكون الشيء وعدم حركته .

{ وترى الجبال } : هو من رؤية العين تحسبها حال من فاعل ترى ، أو من الجبال .

وجامدة ، من جمد مكانه إذا لم يبرح منه ، وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في الصور ، وهي أول أحوال الجبال ، تموج وتسير ، ثم ينسفها الله فتصير كالعهن ، ثم تكون هباء منبثاً في آخر الأمر .

{ وهي تمر مر السحاب } : جملة حالية ، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة ، وتشبيه مرورها بمر السحاب .

قيل : في كونها تمر مراً حثيثاً ، كما مر السحاب ، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد ، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها ، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش :

نار عن مثل الطود تحسب أنهم *** وقوف لحاج والركاب تهملج

وقيل : شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيراً وسطاً ، كما قال الأعشى :

كأن مشيتها من بيت جارتها *** مر السحابة لا ريث ولا عجل

وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها ، قيل : لهول ذلك اليوم ، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة .

وقال أبو عبد الله الرازي : الوجه في حسبانهم أنها جامدة ، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت ، ظن الناظر إليها أنها واقفة ، وهي تمر مراً حثيثاً . انتهى .

وقيل : وصف تعالى الجبال بصفات مختلفة ، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه .

فأول الصفات : ارتجاجها ، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ، ثم نسفها ، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها ، والأرض غير بارزة ، وبالنسف برزت ، ونسفها بإرسال الرياح عليها ، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار ، ثم كونها سراباً ، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئاً كالسراب .

وقال مقاتل : بل تقع على الأرض فتسوى بها .

وانتصب { صنع الله } على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها ، فالعامل فيه مضمر من لفظه .

وقال الزمخشري : { صنع الله } من المصادر المؤكدة كقوله : { وعد الله } و { صبغة الله } إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ ، والمعنى : { ويوم ينفخ في الصور } ، فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين ، وعاقب المجرمين ، ثم قال : { صنع الله } ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب ، حيث قال : { صنع الله الذي أتقن كل شيء } ، يعني ؛ أن مقابلته الحسنة بالثواب ، والسيئة بالعقاب ، من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها واجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد ، وبما يستوجبون عليه ، فيكافئهم على حسب ذلك .

فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ، وما لأمر أعجز القوى وأخرس الشقاشق ، ونحو هذا المصدر ، إذا جاء عقيب كلام ، جاء كالشاهد لصحته ، والمنادى على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما كان .

ألا ترى إلى قوله : { صنع الله } ، و { صبغة الله } و { وعد الله } و { فطرة الله } بعد ما رسمها بإضافتها إليه تسمية التعظيم ، كيف تلاها بقوله : { الذي أتقن كل شيء ، ومن أحسن من الله صبغة } { إن الله لا يخلف الميعاد } { لا تبديل لخلق الله } انتهى .

وهذا الذي ذكر من شقاشقه وتكثيره في الكلام ، واحتياله في إدارة ألفاظ القرآن لما عليه ، من مذاهب المعتزلة .

والذي يظهر أن صنع الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، وهي جملة الحال ، أي صنع الله بها ذلك ، وهو قلعها من الأرض ، ومرّها مرًّا مثل مر السحاب .

وأما قوله : إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ إلى قوله صنع الله ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، فذلك لا يصح ، لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته ، لأنه منصوب بفعل من لفظه ، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر ، وذلك حذف كثير مخل .

ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة ، وجد الجمل مصرحاً بها ، لم يرد الحذف في شيء منها ، إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد ، إذ الحذف ينافي التوكيد ، لأنه من حيث أكد معتنى به ، ومن حيث حذف غير معتنى به .

وقيل : انتصب صنع الله على الإغراء بمعنى ، انظروا صنع الله .

وقرأ العربيان ، وابن كثير : يفعلون بالياء ؛ وباقي السبعة بتاء الخطاب .