فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ} (88)

{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ( 88 ) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ( 89 ) }

{ وترى الجبال تحسبها } بفتح السين وكسرها { جامدة } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للرؤية ، والرؤية بصرية ، وهذه العلامة الثالثة لقيام الساعة ، والمعنى تظنها واقفة قائمة ساكنة مكانها قاله ابن عباس .

{ وهي تمر مر السحاب } أي : وهي تسير سيرا حثيثا كسير السحاب التي تسيرها الرياح ، وذلك أن كل شيء عظيم ، وكل جسم كبير ، وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمه ، وبعدما بيّن أطرافه ، فهو في حساب الناظر واقف وهو سائر ، كذلك سير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها ، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه .

وقال القتيبي : وذلك أن الجبال تجمع وتسير ، وهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير . قال النسفي : هكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت أي : في سمت واحد ، لا تكاد تبين حركتها ، ونحوه قال البيضاوي .

قال القشيري : وهذا يوم القيامة ، ومثله قوله تعالى : { وسيرت الجبال فكانت سرابا } . وقال أبو السعود : هذا مما يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق ، يبدل الله الأرض غير الأرض ، ويغير هيئتها ، ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ، ليشهدها أهل المحشر ، وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسيرها إنما يكون بعد النفخة الثانية ، كما نطق به قوله : فقل ينسفها ربي نسفا الخ وقوله : يوم تبدل الأرض .

وقد قيل : إن المراد بالنفخة الأولى ، والفزع هو الذي يستتبع الموت ، فيختص أثرها بمن كان حيا عند وقوعها دون من مات قبل ذلك من الأمم ، والمراد بالإتيان داخرين رجوعهم إلى أمره تعالى ، وانقيادهم له ، ولا ريب في أن ذلك مما ينبغي أن تنزه ساحة التنزيل عن أمثاله وأبعد من هذا ما قيل : إن المراد بهذه النفخة نفخة الفزع التي تكون قبل نفخة الصعق فإنه مما لا ارتباط له بالمقام قطعا ، والحق الذي لا محيد عنه ما قدمناه ، ومما هو نص في الباب ، ما سيأتي من قوله تعالى : وهم من فزع آمنون .

{ صنع الله الذي أتقن كل شيء } أي صنع الله ذلك صنعا ، وهو مصدر مؤكد لقوله : يوم ينفخ في الصور ، وقيل : انظروا صنع الله الذي أحكم ، يقال : رجل تقن بكسر التاء أي حاذق بالأشياء ، والإتقان الإتيان بالشيء على أكمل حالاته ، وهو مأخوذ من قولهم تقن أرضه إذا ساق إليها الماء الخاثر بالطين لتصلح للزراعة ، وأرض تقنة والتقن فعل ذلك بها ، والتقن أيضا ما رمي في الغدير من ذلك ، أو الأرض ، ذكره السمين قال ابن عباس : أتقن أي أحسن كل شيء صنعه وخلقه وأوثقه .

{ إنه خبير بما تفعلون } تعليل لما قبله من كونه سبحانه صنع ما صنع وأتقن كل شيء ، والخبير المطلع على الظواهر والضمائر وقرئ بالفوقية على الخطاب ، وبالتحتية على الخبر ، قال المحلى : أي ما يفعلون أعداؤه من المعصية وأولياؤه من الطاعة .